الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
أنشد فيه، الشاهد الحادي والخمسون بعد الأربعمائة، وهو من شواهد س: أتوا ناري فقلت: منون أنتم *** فقالوا الجن قلت: عموا ظلاما على أن يونس يجوز الحكاية ب من وصلاً، كما في البيت. قال سيبويه: وأما يونس فإنه يقيس منه على أيةٍ، فيقول: منةٌ ومنةً ومنةٍ إذ قال، يا فتى. وهذا بعيد، وإنما يجوز على قول شاعر، قاله مرة في شعر، ثم لا يسمع بعد: أتوا ناري فقلت: منون أنتم ***............. البيت وزعم يونس أنه سمع عربياً يقول ضرب منٌ مناً. وهذا بعيد لا تتكلم به العرب، ولا تستعمله ناس كثير، وكان يونس يقول: لا يقبل هذا كل أحد، فإنما يجوز منون يا فتى على هذا. انتهى. قال النحاس: وهذا عند سيبويه رديء، لأن هذه العلامة إنما تقع في الوقف ولا تقع في الوصل، فلما اضطر أجراه في الوصل على حاله في الوقف. وأنشد أبو الحسن بن كيسان: أتوا ناري فقلت: منون قالوا: *** سراة الجن قلت: عموا ظلاما وقال: إنما حكى كيف كان كلامه وجوابه. انتهى. وهذه الرواية هي رواية أبي زيد في نوادره كما يأتي. ففي الرواية الأولى شذوذان كما في المفصل: إلحاق العلامة في الدرج، وتحريك النون. وفيه أيضاً كما قال ابن الناظم في شرح الألفية أنه حكى مقداراً غير مذكور. وفي الثانية شذوذٌ واحد، وهو تحريك النون. قال ابن جني في الخصائص: من رواه: منون قالوا فإنه أجرى الوصل مجرى الوقف. فإن قلت: فإنه في الوقف إنما يكون منون ساكن النون وأنت في البيت قد حركته. فهذا إذن ليس على نية الوقف ولا على نية الوصل. فالجواب: أنه إنما أجراه في الوصل على حده في الوقف، فلما أثبت الواو والنون التقيا ساكنين، فاضطر حينئذٍ إلى أن حرك النون لإقامة الوزن. فهذه الحركة إذن إنما هي حركةٌ مستحدثة لم تكن في الوقف، وإنما اضطر إليها في الوصل. وأما من رواه منون أنتم فأمره مشكل. وذلك أنه شبه من ب أي، فقال: منون أنتم، على قوله: أيون أنتم. فكما حمل ها هنا أحدهما على الآخر كذلك جمع بينهما، في أن جرد من الاستفهام كل منهما. ألا ترى إلى حكاية يونس عنهم: ضرب منٌ مناً، كقولك: ضربٌ رجلٌ رجلاً. انتهى. وقوله: أتوا ناري فقلت إلى آخره، الفاء عطفت جملة قلت على أتوا. وهي للترتيب الذكري، وهو عطف مفصل على مجمل، نحو: فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه. وجملة منون أنتم من المبتدأ والخبر محكية بالقول. ومنون إما مبتدأ، وأنتم خبره وبالعكس. والفاء من فقالوا عطفت مدخولها على قلت. والجن خبر مبتدأ محذوف، أي: نحن الجن. والجملة محكية بقالوا. وكذلك على الرواية الثانية: فقلت منون قالوا سراة الجن، أي: نحن أشرافها. وهو بفتح السين جمع سري على ما قيل، بمعنى الشريف. وكذلك منون على تقدير منون أنتم. قال الجوهري: عموا صباحاً: كلمة تحية. قال ابن السيرافي: وإنما قال لهم: عموا ظلاماً لأنهم جنٌّ، وانتشارهم بالليل، فناسب أن يذكر الظلام، كما يقال لبني آدم إذا أصبحوا: عموا صباحاً. قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل: ومعنى عموا انعموا، يقال: عم صباحاً بكسر العين وفتحها. ويقال: وعم يعم، من باب وعد وومق. وذهب قومٌ إلى أن يعم محذوفة ينعم. وقالوا: إذا قيل عم بفتح العين فهو محذوف من انعم المفتوح، وإذا قيل عم بكسر العين فهو محذوف من ينعم المكسور العين. وحكى يونس أن أبا عمرو بن العلاء سأل عن قول عنترة: وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي فقال هو من نعم المطر، إذا كثر، ونعم البحر، إذا كثر زبده، كأنه يدعو لها بالسقية وكثرة الخير. وقال الأصمعي والفراء في قولهم: عم صباحاً: إنما هو دعاءٌ بالنعيم والأهل، وهذا هو المعروف، وما حكاه يونس نادر غريب. وظلاماً: ظرف، أي: انعموا في ظلامكم، وتمييز، والأصل لينعم ظلامكم، فحول إلى التمييز. انتهى. وقال ابن الحاجب في أماليه: ظلاماً تمييز، أي: نعم ظلامكم، كما تقول: أحسن الله صباحك. ولا يحسن أن يكون ظرفاً، إذ ليس المراد أنهم نعموا في ظلام، ولا في صباح، وإنما المراد أنه نعم صباحهم، وإذا حسن صباحهم، كان في المعنى حسنهم. والبيت من أبيات أربعةٍ رواه أبو زيد في نوادره ونسبها لشمير بن الحارث الضبي، مصغر شمر بكسر المعجمة. قال أبو الحسن فيما كتبه على نوادر أبي زيد: سمير المذكور، بالسين المهملة. وهي هذه: ونارٍ قد حضأت لها بليلٍ *** بدارٍ لا أريد بها مقاما سوى تحليل راحلةٍ وعينٍ *** أكالئها مخافة أن تناما أتوا ناري فقلت: منون قالو *** سراة الجن قلت: عموا ظلاما فقلت: إلى الطعام فقال منهم *** زعيمٌ: نحسد الإنس الطعاما وزاد بعده غيره بيتاً آخر، وهو: لقد فضلتم بالأكل فين *** ولكن ذاك يعقبكم سقاما وزاد بعضهم بعده: أمط عنا الطعام فإن فيه *** لآكله النقاصة والسقامة قال السكري فيما كتبه هنا: حضأت، أي: أشعلت وأوقدت، يقال في تصريفها حضأت النار أحضؤها حضاً، وهو بالحاء المهملة والضاد المعجمة والهمزة. واللام في لها زائدةٌ؛ لأن حضأت متعد. وروى ابن السيد وغيره: ونارٍ قد حضأت بعيد وهنٍ وقال: الوهن والموهن: نحوٌ من نصف الليل. والذي ذكره الأصمعي أن الوهم هو حين يدبر الليل. وهذا يدل له الاشتقاق. فالمجرور بواو رب في محل نصب على المفعول بحضأت. وقوله: سوى تحليل راحلة، قال السكري: أراد: سوى راحلةٍ أقمت فيها بقدر تحلة اليمين.وروى غيره: سوى ترحيل راحلة قال ابن السيد: ترحيل الراحلة: إزالة الرحل عن ظهرها. والرحل للإبل كالسرج للخيل. والراحلة: الناقة التي تتخذ للركوب والسفر، سميت بذلك لأنها ترحل براكبها. وأكالئها: أحرسها وأحفظها لئلا تنام. قال ابن السيد: وكان المفضل يروي: معير أكالئها بالراء بدل النون، وقال: العير: إنسان العين. قال ابن هشام اللخمي بعد هذا: وهذه هي الرواية الصحيحة. وعير تؤنث على المعنى، لأنها عين، وتذكر. ومخافة مفعول لأجله. وقوله: فقلت إلى الطعام، إلى متعلقة بفعل محذوف، أي: هلموا إليه، وأورده الزمخشري في أول الكشاف على أنه حذف متعلق الجار من بسم الله الرحمن الرحيم، كما حذف متعلق إلى الطعام، وهذا المحذوف في حكم الموجود، والمجموع محكي بالقول. وقول ابن السيد: هذا الفعل المحذوف في حكم الظاهر، فلذلك لم يكن له موضع من الإعراب، لا يظهر لتعليله وجهٌ. وقال ابن خروف: يجوز أن تكون إلى اسم فعل. وجزم اللخمي بأن إلى هنا إغراء. وفسروا الزعيم بالرئيس والسيد. وقال بعضهم: الزعيم بمعنى القائل، كما تقول: زعم زاعمٌ، أي: قال قائل، ولا معنى للسيد هنا. وزعيمٌ فاعل. قال: وروى بدل زعيم: فريق. ومنهم كان في الأصل وصفه فلما قدم عليه صار حالاً منه. وقوله: نحسد إلخ، يروى بالنون، فالجملة مقول القول. ويروى بالمثناة التحتية فالجملة صفةٌ لزعيم، فيكون البيت الذي بعده مقول القول. والأنس يروى بفتحتين، وبكسرة فسكون، ومعناهما البشر. قال ابن الحاجب في أماليه: الطعام: مفعول ثان، إما على تقدير حرف خفض، أي: نحسد الإنس على الطعام. وإما على أنه متعدٍّ بنفسه من أصله. كقوله: استغفرت الله الذنب، ومن الذنب. وقال اللخمي: الطعام مفعول ثان على إسقاط حرف الجر، أي: نحسد الإنس في الطعام. وقال الأندلسي: الأولى تقديره بعلى: لأنه يقال: حسدته على كذا. وقد قوله صلى الله عليه وسلم: لا حسد إلا في اثنتين ، يجوز أن يكون أقام بعض حروف الصفات مقام الآخر. ويؤيده قول الجوهري: حسدتك على الشيء، وحسدتك الشيء بمعنى. وقوله: لقد فضلتم بالبناء للمفعول وفينا بمعنى علينا. وقوله: أمط عنا إلخ، أي: أزله عنا. والنقاصة بالفتح، هو مصدر كالنقص بالنون والقاف والصاد المهملة. ذكر في أبياته أن الجن طرقته، وقد أوقد ناراً لطعامه، فدعاهم إلى الأكل منه فلم يجيبوه، وزعموا أنهم يحسدون الإنس في الأكل، وأنهم فضلوا عليهم بأكل الطعام، ولكن ذلك يعقبهم السقام. وقوله: لقد فضلتم بالأكل فينا ظاهره أن الجن لا يأكلون، ولا يشربون. وقال ابن السيرافي: قال زعيمهم: نحسد الإنس على أكل الطعام والالتذاذ، وليس من شأننا أن نأكل ما يأكله الإنس. وقال ابن المستوفي: لم يرد أن الجن لا تأكل ولا تشرب، وإنما أراد أن طعام الإنس أفضل من طعام الجن. وهذان القولان خلاف الظاهر. ويؤيد ما قلنا قول ابن خروف في شرح أبيات سيبويه: قوله: لقد فضلتم بالأكل فينا، مخالفٌ للشرع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الجن تأكل وتشرب. وفي آكام المرجان في أحكام الجان، لبدر الدين محمد بن عبد الله الشبلي الحنفي الشامي، وقد صنفه كما قال الصفدي في سنة سبع وخمسين وسبعمائة: وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: أحدها: أن جميع الجن، لا يأكلون ولا يشربون. وهذا قول ساقط. ثانيها: أن صنفاً منهم يأكلون ويشربون، وصنفاً لا يأكلون ولا يشربون. ثالثها: أن جميع الجن يأكلون ويشربون. فقال بعضهم: أكلهم وشربهم تشممٌ واسترواح، لا مضغ وبلع. وهذا لا دليل له. وقال آخرون: أكلهم وشربهم مضغ وبلع. ويدل لهذا حديث أمية بن مخشي، من رواية أبي داود: ما زال الشيطان يأكل معه فلما ذكر الله تعالى استقاء ما في بطنه. وفي الصحيحين أن الجن سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الزاد، فقال: كل عظمٍ ذكر اسم الله عليه يقع في يد أحدهم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعر علفٌ لدوابهم. وفي حديث يزيد بن جابر، قال: ما من أهل بيت من المسلمين إلا وفي سقف بيتهم من الجن من المسلمين، إذا وضع غداؤهم نزلوا فتغدوا معهم، وإذا وضع عشاؤهم، نزلوا فتعشوا معهم، يدفع الله بهم عنهم. والجن على مراتب، قال ابن عبد البر: إذا ذكروا الجن خالصاً، قالوا: جني. فإن أرادوا أنه ممن يسكن مع الناس، قالوا: عامر، والجمع عمار. فإن كان مما يعرض للصبيان قالوا: أرواح. فإن خبث ولؤم قالوا: شيطان. فإن زاد على ذلك فهو مارد. فإن زاد على ذلك وقوي أمره قالوا: عفريت. وقال ابن عقيل: الشياطين: العصاة من الجن، وهم ولد إبليس، والمردة أعتاهم وأغواهم، وهم أعوان إبليس. وقال الجوهري: كل عاتٍ متمرد من الجن والإنس والدواب شيطان. وقال ابن دريد: الجن: خلاف الإنس. ويقال: جنه الليل وأجنه، وأجن عليه وغطاه في معنى واحد، إذا ستره. وكل شيء استتر عنك فقد جن عنك. وبه سميت الجن. وكان أهل الجاهلية يسمون الملائكة جناً لاستتارهم عن العيون. قالوا: والحن بالحاء المهملة زعموا أنه ضربٌ من الجن. وقال أبو عمر الزاهد: الجن: كلاب الجن وسفلتهم. والجان: أبو الجن. قال السهيلي في كتاب النتائج: ومما قدم للفضل والشرف تقديم الجن على الإنس، في أكثر المواضع، لأن تشتمل على الملائكة وغيرهم مما اجتن عن الأبصار. قال تعال: وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ، وقال الأعشى:زلوا فتغدوا معهم، وإذا وضع عشاؤهم، نزلوا فتعشوا معهم، يدفع الله بهم عنهم. والجن على مراتب، قال ابن عبد البر: إذا ذكروا الجن خالصاً، قالوا: جني. فإن أرادوا أنه ممن يسكن مع الناس، قالوا: عامر، والجمع عمار. فإن كان مما يعرض للصبيان قالوا: أرواح. فإن خبث ولؤم قالوا: شيطان. فإن زاد على ذلك فهو مارد. فإن زاد على ذلك وقوي أمره قالوا: عفريت. وقال ابن عقيل: الشياطين: العصاة من الجن، وهم ولد إبليس، والمردة أعتاهم وأغواهم، وهم أعوان إبليس. وقال الجوهري: كل عاتٍ متمرد من الجن والإنس والدواب شيطان. وقال ابن دريد: الجن: خلاف الإنس. ويقال: جنه الليل وأجنه، وأجن عليه وغطاه في معنى واحد، إذا ستره. وكل شيء استتر عنك فقد جن عنك. وبه سميت الجن. وكان أهل الجاهلية يسمون الملائكة جناً لاستتارهم عن العيون. قالوا: والحن بالحاء المهملة زعموا أنه ضربٌ من الجن. وقال أبو عمر الزاهد: الجن: كلاب الجن وسفلتهم. والجان: أبو الجن. قال السهيلي في كتاب النتائج: ومما قدم للفضل والشرف تقديم الجن على الإنس، في أكثر المواضع، لأن تشتمل على الملائكة وغيرهم مما اجتن عن الأبصار. قال تعال: وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ، وقال الأعشى: وسخر من جن الملائك سبعةً *** قياماً لديه يعملون بلا أجر فأما قوله تعالى: {لم يطمثهن إنسٌ قبلهم ولا جان}، وقوله تعالى: {لا يسأل عن ذنبه إنسٌ ولا جان}، وقوله تعالى: {وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذب} فإن لفظ الجن ها هنا لا يتناول الملائكة، لنزاهتهم عن العيوب، فلما لم يتناولهم عموم اللفظ لهذه القرينة، بدأ بلفظ الإنس لفضلهم وكمالهم. وشمير بن الحارث الضبي، ناظم هذه الأبيات، تقدم ذكره في الشاهد السادس والستين بعد الثلثمائة. قد روي البيت الشاهد من قصيدة قافيتها حائية. قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل للزجاجي: ذكر أبو القاسم مؤلف الجمل أن الناس يغلطون في هذا الشعر فيروونه: عموا صباحاً، وجعل دليله الأبيات الميمية المنقولة عن أبي زيد. ولقد صدق فيما حكاه ولكنه أخطأ في تخطئة رواية من روى: عموا صباحاً، لأن هذا الشعر الذي أنكره وقع في كتاب خبر سد مأرب ونسبه إلى جذع بن سنان الغساني في حكايةٍ طويلةٍ، زعم أنها جرت له مع الجن. وكلا الشعرين أكذوبة من أكاذيب العرب لم تقع قط. والشعر الذي على قافية الميم ينسب إلى شمير بن الحارث، وينسب إلى تأبط شراً. وأما الشعر الذي على قافية الحاء فلا أعلم خلافاً في أنه لجذع بن سنان، وهو: أتوا ناري فقلت: منون أنتم *** فقالوا: الجن قلت: عموا صباحا نزلت بشعب وادي الجن لم *** رأيت الليل قد نشر الجناحا أتيتهم وللأقدار حتمٌ *** تلاقي المرء صبح ورواحا أتيتهم غريباً مستضيف *** رأوا قتلي إذا فعلوا جناحا أتوني سافرين فقلت: أهل *** رأيت وجوههم وسماً صباحا نحرت لهم وقلت: ألا هلمو *** كلوا مما طهيت لكم سماحا أتاني قاشرٌ وبنو أبيه *** وقد جن الدجى والليل لاحا فنازعني الزجاجة بعد وهن *** مزجت لهم بها عسلاً وراحا وحذرني أموراً سوف تأتي *** أهز لها الصوارم والرماحا سأمضي للذي قالوا بعزمٍ *** ولا أبغي لذلكم قداحا أسأت الظن فيه ومن أساه *** بكل الناس قد لاقى نجاحا وقد تأتي إلى المرء المناي *** بأبواب الأمان سدًى صراحا سيبقي حكم هذا الدهر قوم *** ويهلك آخرون به ذباحا أثعلبة بن عمرٍو ليس هذ *** أوان السير فاعتد السلاحا ألم تعلم بأن الذل موتٌ *** يتيح لمن ألم به اجتياحا ولا يبقى نعيم الدهر إل *** لقرمٍ ماجدٍ صدق الكفاحا قال ابن السيد: إن قيل كيف جاز أن يقول لهم: عموا صباحا، وهم في الليل. وإنما يليق هذا الدعاء بمن يلقى في الصباح. فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الرجل إذا قيل له: عم صباحاً، فليس المراد أن ينعم في الصباح دون المساء، كما أنه إذا قيل أرغم الله أنفه، وحيا الله وجهه، فليس المراد الأنف والوجه دون سائر الجسم. وكذلك إذا قيل له: أعلى الله كعبك. وإنما هي ألفاظٌ ظاهرها الخصوص، ومعناها العموم. ومثله قول الأعشى: الواطئين على صدور نعالهم والوطء لا يكون على صدور النعال دون سائرها. والوجه الثاني: أن يكون معنى أنعم الله صباحك: أطلع الله عليك كل صباح بالنعيم، لأن الصباح والظلام نوعان، والنوع يسمى به كل جزء منه بما يسمى به جملته. والشعب، بالكسر: الطريق إلى الجبل. ووسماً، بالضم: جمع وسيم، وهو الذي عليه سمة الجمال. وكذلك الصباح، بالكسر: جمع صبيحٍ. شبه بالصبح في إشراقه. وطهيت: طبخت، يقال: طهيت اللحم وطهوته فأنا طاهٍ. وقوله: لا أبغي لذلكم قداحاً، أي: لا أطلب ضرب القداح، لأنهم كانوا إذا أرادوا فعل أمرٍ ضربوا بالقداح، فإن خرج القدح المكتوب عليه: افعل، فعل الأمر. وإن خرج القدح المكتوب عليه: لا تفعل، لم يفعل الأمر. وقوله: أسأت الظن فيه، يقول: أسأت الظن بضرب القداح والتعويل على ما تأمر به، وتنهى عنه، وعلمت أن ما أمرتني به الجن أحرى أن يعول عليه. وقوله: سدًى صراحاً، السدى: الإبل المهملة التي لا يردها أحد. والصراح: الظاهرة. والذباح، بضم الذال المعجمة بعدها موحدة: نباتٌ يقتل من أكله ومن رواه بكسر الذال جعله جمع ذبيح. وقوله: يتيح، أي: يقدر ويجلب، يقال: أتاح الله كذا، أي: قدره. وألم: نزل. والاجتياح، بجيم بعدها مثناة فوقية: الاستئصال. والقرم، بفتح القاف وسكون الراء: السيد، وأصله الفحل من الإبل. والكفاح، بالكسر: ملاقاة الأعداء. انتهى. وجذع بن سنان الغساني، بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة، شاعرٌ جاهلي قديم. وغسان: قبيلة من الأزد من قحطان. وجذعٌ خرج مع من خرج الأزد قبل سيل العرم وجاؤوا إلى الشام، وكان ملكها إذ ذاك سليح، وهم من غسان أيضاً، وقيل من قضاعة. وكانوا يؤدون لسليح عن كل رجل دينارين، فجاء عامل الملك إلى جذع بن سنانٍ يطلب الخراج الذي وجب عليه، فدفع إليه سيفه رهناً، فقال: أدخله في حر أمك! فغضب جذعٌ وقنعه به، فقيل: خذ من جذعٍ ما أعطاك، وسارت مثلاً. تضرب في اغتنام ما يجود به البخيل. وقيل في سبب المثل غير هذا. وامتنعت غسان من هذا الخراج بعد ذلك وولوا الشام، كما تقدم شرحه في ملوك بني جفنة. وفي العباب للصاغاني أن جذعاً هو جذع بن عمرو وهو غلظ. أنشد فيه، وهو الشاهد الثاني والخمسون بعد الأربعمائة فداءٍ لك الأقوام هو قطعة من بيت، وهو: مهلاً فداء لك الأقوام كلهم *** وما أثمر من مالٍ ومن ولد على أن فداء اسم فعل منقول من المصدر. قال صاحب الصحاح: الفدا إذا كسر أوله يمد ويقصر، وإذا فتح فهو مقصور، يقال: قم فدًى لك أبي. ومن العرب من يكسر فداء بالتنوين، إذا جاور الجر خاصة، فيقول: فداءٍ لك، لأنه نكرة، يريدون به معنى الدعاء. وأنشد هذا البيت للنابغة عن الأصمعي. وهذا التعليل فيه خفاء. والواضح قول أبي علي في المسائل المنثورة وقد أنشده فيها، قال: بني على الكسر لأنه قد تضمن معنى الحرف، وهو لام الأمر، لأن التقدير: ليفدك الأقوام كلهم. فلما كان بمعناه بني. وبني على الكسر لأنه وقع للأمر. والأمر إذا حرك تحرك إلى الكسر. ونونوه لأنه نكرة. انتهى. قال الزمخشري في المفصل: ومنه فداءٍ لك، بالكسر والتنوين، أي: ليفدك. وأنشد البيت. قال ابن المستوفي: قوله: ومنه: يريد ما التزم فيه التنكير، كإيهاً في الكف، وويهاً في الإغراء، وواهاً في التعجب. وعقبه بقوله: ومنه فداءٍ، يستعمل مكسوراً منوناً وغير منون، حملاً على إيهٍ وإيه. ثم نقل عن الزمخشري في حواشيه أنه قال: فداءٌ بالرفع، على أنه خبر الأقوام. وفداء بالكسر، لما ذكرنا. وفداءً بالنصب على أنه مصدر لفعله، وهو ليفدك الأقوام مع كسر فداءٍ بالفاعل أيضاً لأنه أمرٌ لهم بالفداء. يعني أن الأقوام فاعل فداء أيضاً في حالة النصب، لأنه فاعل المصدر، كما أنه فاعله في حالة الكسر والتنوين. وذكر القواس في شرح ألفية ابن معطي أن فيه لغات: فدًى بفتح الفاء وضمها على القصر، وكسرها مع القصر والمد. وروى أبو زيد في نوادره قول الراجز: ويهاً فداءٍ لك يا فضاله بالكسر والتنوين. وهذا لا فاعل له في اللفظ، وإنما الفاعل مفهومٌ من المقام، أي: ليفدك الناس، ونحوه. وويهاً: كلمة إغراء. وقوله: مهلاً، بمعنى أمهل وتأن. وقوله: وما أثمر معطوفة على الأقوام، وهي موصولة والعائد محذوف أي: أثمره. وأثمر: أجمع وأصلح. يقال: ثمر فلانٌ ماله، إذا أصلحه وجمعه. ومن للبيان. والبيت من قصيدةٍ للنابغة الذبياني مدح بها النعمان بن المنذر، وتنصل عن ما قذفوه به، حتى خافه، وهرب منه إلى بني جفنة ملوك الشام. وقد تقدم شرح أبياتٍ كثيرة منها في باب الحال، وفي باب خبر كان، وفي النعت، وفي البدل وغير ذلك. وبعد هذا البيت بيتٌ يورده علماء التصريف في كتبهم، وهو: لا تقذفني بركنٍ لا كفاء له *** ولو تأثفك الأعداء بالرفد وقوله: لاتقذفني، أي: لا تركبني بما لا أطيق، ولا يقوم له أحد. والكفاء، بالكسر: المثل. وتأثفك الأعداء: اجتمعوا حولك واحتوشوك، فصاروا منك موضع الأثافي من القدر. وقوله: بالرفد، بكسر ففتح: جمع رفدة بكسر فسكون، أي: يرفد بعضهم بعضاً، يتعاونون بالنمائم علي، ويسعون بي عندك. يقال: رفد فلانٌ فلاناً يرفده رفداً، إذا أعانه. وأنشد بعده: وهو الشاهد الثالث والخمسون بعد الأربعمائة، وهو من شواهد س: كذب العتيق وماء شنٍ بارد *** إن كنت سائلتي غبوقاً فاذهبي على أن كذب في الأصل فعل، وقد صار اسم فعل أمرٍ بمعنى الزم. لم أر من قال من النحويين وغيرهم أن كذب اسم فعلٍ. وهذا شيىءٌ انفرد به الشارح المحقق. وإنما ذكروه في جملة الأفعال التي منعت التصرف، منهم ابن مالك في التسهيل. وقول الشارح المحقق: إذا روي بنصب العتيق، تحقيقٌ لكونه اسم الفعل، فإن أكثر اسم الفعل يكون بمعنى الأمر، كما قاله الشارح، ففاعله مستترٌ فيه وجوباً تقديره أنت، والعتيق مفعوله، وماء معطوف على العتيق، وبارداً صفة ماء. ومفهومه أن العتيق إذا روي بالرفع لم يكن كذب اسم فعل. ولم يبين حكمه، وكأنه ترك شرحه لشهرته بمعنى الإغراء. وفيه أن كذب سواءٌ نصب ما بعده ورفع، بمعنى الإغراء كما في الأمثلة المذكورة في الشرح، فجعله مع المنصوب دون المرفوع اسم فعل تحكمٌ لا يظهر له وجه. على أن النصب قد أنكره جماعة وعينوا الرفع، منهم أبو بكر بن الأنباري في رسالة شرح فيها معاني الكذب على خمسة أوجه، قال: كذب معناه الإغراء، ومطالبة المخاطب بلزوم الشيء المذكور، كقول العرب: كذب عليك العسل، ويريدون كل العسل. وتلخيصه: أخطأ تارك العسل، فغلب المضاف إليه على المضاف. قال عمر بن الخطاب: كذب عليكم الحج، كذب عليكم العمرة، كذب عليكم الجهاد: ثلاثة أسفار كذبن عليكم معناه الزموا الحج والعمرة والجهاد. والمغرى به مرفوع بكذب، لا يجوز نصبه على الصحة، لأن كذب فعل لا بد له من فاعل، وخبرٌ لا بد من محدث عنه،والفعل والفاعل كلاهما تأويلهما الإغراء. ومن زعم أن الحج والعمرة والجهاد في حديث عمر حكمهن النصب لم يصب، إذ قضى بالخلو عن الفاعل. وقد حكى أبو عبيدٍ عن أبي عبيدة عن أعرابي، أنه نظر إلى ناقةٍ نضوٍ لرجل، فقال: كذب البزر والنوى. قال أبو عبيد: لم يسمع النصب مع كذب في الإغراء إلا في هذا الحرف. قال أبو بكر: وهذا شاذٌ من القول، خارجٌ في النحو عن منهاج القياس، ملحقٌ بالشواذ التي لا يعول عليها، ولا يؤخذ بها. قال الشاعر: كذب العتيق وماء شنٍّ باردٌ معناه الزمي العتيق، وهذا الماء، ولا تطالبيني بغيرهما. والعتيق مرفوع لا غير. انتهى. ومن الغريب قول ابن الأثير في النهاية في حديث عمر، برفع الحج والعمرة والجهاد، معناه الإغراء، أي: عليكم بهذه الأشياء الثلاثة. وكان وجهه النصب، ولكنه جاء شاذاً مرفوعاً. انتهى. وقد نقل أبو حيان كلام ابن الأنباري في تذكرته، وفي شرح التسهيل، وزاد فيه بأن الذي يدل على رفع الأسماء بعد كذب أنه يتصل بها الضمير، كما جاء في كلام عمر: ثلاثة أسفار كذبن عليكم. وقال الشاعر: كذبت عليك ولا تزال تقوفني معناه عليك بي: فرفع التاء وهي مغرًى بها، واتصلت بالفعل لأنه لو تأخر الفاعل لكان منفصلاً، وليس هذا من مواضع انفصال الضمير. انتهى. والصحيح جواز النصب، لنقل العلماء أنه لغة مضر، والرفع لغة اليمن. ووجهه مع الرفع أنه من قبيل ما جاء لفظ الخبر فيه بمعنى الإغراء كما قال ابن الشجري في أماليه كتؤمنون بالله، بمعنى أمنوا بالله. ورحمه الله، بمعنى اللهم ارحمه، وحسبك زيد، بمعنى اكتف به. ووجهه مع النصب من باب سراية المعنى إلى اللفظ فإن المغرى به لما كان مفعولاً في المعنى اتصلت به علامة النصب ليطابق اللفظ المعنى. وقال عبد الدائم بن مرزوق القيرواني في كتاب حلى العلى، في الأدب: إنه يروى العتيق بالرفع والنصب، ومعناه عليك العتيق، وماء شن وأصله: كذب ذاك، عليك العتيق، ثم حذف عليك، وناب كذب منابه، فصارت العرب تغري به. وقال الأعلم في شرح مختار الشعراء الستة عند كلامه على هذا البيت: قولهّ: كذب العتيق، أي: عليك بالتمر. والعتيق: التمر البالي. والعرب تقول: كذبك التمر واللبن، أي: عليك بهما. وبعض العرب ينصب وهم مضر، والرفع لليمن. وأصل الكذب الإمكان. وقول الرجل للرجل: كذبت، أي: أمكنت من نفسك وضعفت فلهذا اتسع فيه وأغري به، لأنه متى أغري بشيء فقد جعل المغرى به ممكناً مستطاعاً إن رامه المغرى. انتهى. قال أبو حيان في شرح التسهيل بعد نقله لهذا الكلام: وإذا نصبنا بقي كذب بلا فاعل على ظاهر اللفظ، والتي تقتضيه القواعد أن هذا يكون من باب الإعمال، فكذب يطلب الاسم على أنه فاعلٍ، وعليك يطلبه على أنه مفعول، فإذا رفعنا الاسم بكذب كان مفعول عليك محذوفا لفهم المعنى، التقدير كذب عليكه الحج. وإنما التزم حذف المفعول لأنه مكان اختصار، ومحرف عن أصل وضعه، فجرى لذلك مجرى الأمثال في كونها يلتزم فيها حالةٌ واحدة يتصرف فيها، وإذا نصبنا الاسم كان الفاعل مضمراً في كذب يفسره ما بعده على رأي سيبويه، ومحذوفاً على رأي الكسائي. وقال ابن طريف في الأفعال: وكذب عليك كذا، أي: عليك به، معناه الإغراء، إلا أن الشيء الذي بعد عليك يأتي مرفوعاً. انتهى. وقد بسط الكلام على هذه الكلمة الزمخشري في الفائق فلا بأس بإيراده هنا، وإن كان فيه طول. قال في حديث الحجامة: فمن احتجم في يوم الخميس والأحد كذباك، أي: عليك بهما. ومنه حديث عمر رضي الله عنه: كذب عليكم الحج الحديث السابق. وعنه أن رجلاً أتاه يشكو إليه النقرس، فقال: كذبتك الظهائر، أي: عليك المشي في حر الهواجر وابتذال النفس. وعنه: أن عمرو بن معد يكرب شكا إليه المعص. فقال: كذب عليك العسل، يريد العسلان. فهذه كلمة مشكلة قد اضطربت فيها الأقاويل، حتى قال بعض أهل اللغة: أظنها من الكلام الذي درج، ودرج أهله ومن كان يعلمه. وأنا لا أذكر من ذلك إلا قول من هجيراه التحقيق. قال أبو علي: الكذب ضربٌ من القول، وهو نطق كما أن القول نطق. فإذا جاز في القول الذي الكذب ضربٌ منه أن يتسع فيه، فيجعل غير نطق، على نحو قوله: قد قالت الأنساع للبطن الحقي جاز في الكذب أن يجعل غير نطق على نحو قوله: كذب القراطف والقروف فيكون ذلك انتفاءً لها، كما أنه إذا أخبر عن الشيء على خلاف ما هو به كان انتفاءً للصدق فيه. وكذلك قوله: كذبت عليكم أوعدوني معناه لست لكم، وإذا لم أكن لكم، ولم أعنكم، كنت منابذاً لكم، ومنتفيةً نصرتي عنكم. وفي ذلك إغراء منه لهم به. وقوله: كذب العتيق، أي: لا وجود للعتيق، وهو التمر، فاطلبيه، وإذا لم تجدي التمر، فكيف تجدين الغبوق. وقال بعضهم في قول الأعرابي وقد نظر إلى جملٍ نضوٍ: كذب عليك القت والنوى، وروي: البزر والنوى، ومعناه أن القت والنوى ذكرا أنك لا تسمن بهما، فقد كذبا عليك، فعليك بهما؛ فإنك تسمن بهما. وقال أبو علي: فأما من نصب البزر فإن عليك فيه لا يتعلق بكذب، ولكنه يكون اسم فعل وفيه ضمير المخاطب، وأما كذب ففيه ضمير الفاعل، كأنه قال: كذب السمن، أي: انتفى من بعيرك، فأوجده بالبزر والنوى. فهما مفعولاً عليك، وأضمر السمن لدلالة الحال عليه في مشاهدة عدمه. وفي المسائل القصريات: قال أبو بكر في قول من نصب الحج، فقال كذب عليك الحج: إنه كلامان، كأنه قال: كذب، يعني رجلاً ذم إليه الحج، ثم هيج المخاطب على الحج، فقال: عليك الحج. هذا وعندي قولٌ هو القول، وهو أنها كلمة جرت مجرى المثل في كلامهم، ولذلك لم تصرف، ولزمت طريقةً واحدة في كونها فعلاً ماضياً معلقاً بالمخاطب ليس إلا، وهي في معنى الأمر، كقولهم في الدعاء: رحمك الله! والمراد بالكذب الترغيب والبعث، من قول العرب، كذبته نفسه، إذا منته الأماني، وخيلت إليه من الآمال ما لا يكاد يكون، وذلك ما يرغب الرجل في الأمور، ويبعثه على التعرض لها. ويقولون في عكس ذلك: صدقته، إذا ثبطته وخيلت إليه العجز والنكد في الطلب. ومن ثم قالوا للنفس: الكذوب. قال أبو عمرو بن العلاء: يقال للرجل يتهدد الرجل ويتوعده ثم يكذب ويكع: صدقته الكذوب! وأنشد:، ولذلك لم تصرف، ولزمت طريقةً واحدة في كونها فعلاً ماضياً معلقاً بالمخاطب ليس إلا، وهي في معنى الأمر، كقولهم في الدعاء: رحمك الله! والمراد بالكذب الترغيب والبعث، من قول العرب، كذبته نفسه، إذا منته الأماني، وخيلت إليه من الآمال ما لا يكاد يكون، وذلك ما يرغب الرجل في الأمور، ويبعثه على التعرض لها. ويقولون في عكس ذلك: صدقته، إذا ثبطته وخيلت إليه العجز والنكد في الطلب. ومن ثم قالوا للنفس: الكذوب. قال أبو عمرو بن العلاء: يقال للرجل يتهدد الرجل ويتوعده ثم يكذب ويكع: صدقته الكذوب! وأنشد: فأقبل نحوي على قدرةٍ *** فلما دنا صدقته الكذوب وأنشد الفراء: حتى إذا ما صدقته كذبه أي: نفوسه، جعل له نفوساً لتفرق الرأي وانتشاره. فمعنى قوله: كذبك الحج: ليكذبك، أي: ينشطك، ويبعثك على فعله. وأما كذب عليك الحج، فله وجهان: أحدهما أن يضمن معنى فعلٍ يتعدى بحرف الاستعلاء، ويكون على كلامين، كأنه قال: كذب الحج، عليك الحج، أي: ليرغبك الحج، وهو واجبٌ عليك. فأضمر في الأول لدلالة الثاني عليه. ومن نصب الحج فقد جعل عليك اسم فعل كما سبق، وفي كذب ضمير الحج. انتهى. والبيت الشاهد هو من أبياتٍ سبعة لعنترة صاحب المعلقة. وروي أيضاً أنه لخزز ابن لوذان السدوسي. وكلاهما جاهليان. قال الصاغاني: وهو موجود في ديوان أشعارهما. وهذه أبيات عنترة خاطب بها امرأته، وكانت لا تزال تذكر خيله وتلومه في فرسٍ كان يؤثره على سائر خيله، ويسقيه اللبن: لا تذكري فرسي وما أطعمته *** فيكون جلدك مثل جلد الأجرب إن الغبوق له وأنت مسوءةٌ *** فتأوهي ما شئت ثم تحوبي كذب العتيق وماء شنٍّ باردٌ *** إن كنت سائلتي غبوقاً فاذهبي إن الرجال لهم إليك وسيلةٌ *** إن يأخذوك تكحلي وتخضبي ويكون مركبك القعود وحدجه *** وابن النعامة عند ذلك مركبي وأنا امرؤٌ إن يأخذوني عنوةً *** أقرن إلى شر الركاب وأجنب إني أحاذر أن تقول ظعينتي *** هذا غبارٌ ساطعٌ فتلبب وقوله: مثل جلد الأجرب، أي:لا تلوميني في إيثار فرسي فأبغضك، وأهجر مضجعك، وأتحاماك، كما يتحامى الأجرب من الإبل، ويبعد عنها لئلا يعديها. وقيل معناه: أضربك فيبقى أثر الضرب عليك كالجرب. فيكون تهددها بالضرب الأليم. وقوله: إن الغبوق له إلخ، الغبوق: شرب اللبن بالعشي: ما بين الزوال إلى الغروب، وقيل: من الزوال إلى الصباح. ومسوءة، أي:آتٍ إليك ما يسوءك بإيثار فرسي عليك. والتأوه: التحزن، وأن تقول: آه! توجعاً. والتحوب: التوجع، ويقال هو الدعاء على الشيء. وقوله: كذب العتيق إلخ، العتيق هو التمر القديم. قال الدينوري في كتاب النبات: يقال عتق وعتق بالفتح والضم، إذا تقادم. والعتيق: اسم للتمر علم. وأنشد هذا البيت. والشن: القربة الخلق، والماء يكون فيها أبرد منه في القربة الجديدة. يقول: عليك بالتمر فكليه، والماء البارد فاشربيه، ودعيني أوثر فرسي باللبن. وإن تعرضت لشرب اللبن فاذهبي. وإنما يتوعدها بالطلاق. وقد أورد سيبويه هذا البيت في باب وجوه القوافي في الإنشاد، على أنه سمع من العرب من ينشده: إن كنت سائلتي غبوقاً فاذهب بسكون الباء، لأنهم لم يريدوا الترنم. وقوله: إن الرجال إلخ، ويروى: إن العدو، والوسيلة: القربة، وقيل: المنزلة القريبة. قال الأعلم في شرح مختار شعر عنترة: هذا منه وعيدٌ وتخويفٌ، أن تسبى، فيستمتع الرجال بها، وكذلك قال: تكحلي وتخضبي. والمعنى: إن أخذوك تكحلت وتخضبت لهم ليستمتعوا بك. وقال ابن الشجري: أن يأخذوك موضعه نصب بتقدير حذف الخافض، أي: في أن يأخذوك، أي: لهم قربة إليك في أخذهم إياك. قذفها بإرادتها أن تؤخذ مسبية. هذا كلامه، وهذا تحريفٌ منه، فإن إن شرطية لا مفتوحة مصدرية، وقد جزمت الشرط والجزاء. وقد غفل عنهما. وقوله: ويكون إلخ، القعود بفتح القاف: ما اتخذ من الإبل للركوب خاصة. والحدج بكسر المهمل وآخره جيم: مركبٌ من مراكب النساء. وروى بدله: رحله. وابن النعامة: اسم فرسه. وقيل: هو الطريق، وقيل: هو صدر القوم. يقول: إن أخذوك حملت سبيةً على قعود، ونجوت أنا على فرسي. والمعنى على الثاني والثالث أنه إن أسر يمشي راجلاً مهاناً. وقوله: وأنا امرؤ إلخ، العنة بالفتح: القسر والقهر. والركاب: الإبل التي يحمل عليها الأثقال. وأقرن، أي: ألصق بها، وأجعل مقروناً إليها. وأجنب: أقاد. يقول: إن أخذت عنوةً قرنت إلى شر الإبل وجنبت كما تجنب الدابة. وقوله: إني أحاذر إلخ، الظعينة: الزوجة ما دامت في الهودج. والتلبب: التحزم، أي: تحزم للمحاربة. وقيل: هو الدخول في السلاح. وقوله: هذا غبارٌ، يعني غبار الخيل عند الغارة. والساطع: المستطير في السماء. وترجمة عنترة تقدمت في الشاهد الثاني عشر أول الكتاب. وترجمة ابن لوذان تقدمت أيضاً في الشاهد العشرين بعد المائة. أصل الكذب الإخبار على خلاف الواقع. قال ابن قتيبة: الكذب يكون في الماضي، والخلف في المستقبل. قال ابن السيد: هذا الأكثر والأشهر. وقد جاء الكذب مستعملاً في المستقبل. قال تعالى: {ذلك وعدٌ غير مكذوب}. ومن المجاز حديث: صدق الله وكذب بطن أخيك. قال صاحب النهاية: استعمل الكذب ها هنا مجازاً، حيث هو ضد الصدق. والكذب يختص بالأقوال، فجعل بطن أخيه حيث لم ينجع فيه العسل كاذباً؛ لأن الله تعالى قال: فيه شفاءٌ للناس . وقد ألف أبو بكر بن الأنباري رسالة في معاني الكذب قال: الكذب ينقسم على خمسة أقسام: إحداهن: تغيير الحاكي ما يسمع، وقوله ما لا يعلم نقلاً ورواية. وهذا القسم هو الذي يؤثم ويهضم المروءة. الثاني: أن يقول قولاً يشبه الكذب. ولا يقصد به إلا الحق، ومنه حديث كذب إبراهيم ثلاث كذبات، في قوله: إني سقيم. وفي قوله: بل فعله كبيرهم هذا، وفي قوله: سارة أختي، أي: قال قولاً يشبه الكذب. وهو صادقٌ في الثلاث، لأن معنى إني سقيم: الموت في عنقي، ومن الموت في عنقه سقيمٌ أبداً. وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، تأويله فعله الكبير إن كانوا ينطقون، فهو في الحقيقة لا يفعل كما ينطقون أبداً. وتأويل قوله: سارة أختي، هي أختي في ديني لا في نسبي. الثالث: بمعنى الخطأ، نحو: أقدر أن فلاناً في منزله الساعة، فيقال لقائله: صدقت وكذبت. فتأويل صدقت أصبت، ومعنى كذبت أخطأت. قال ابن الأثير في النهاية: ومنه حديث صلاة الوتر: كذب أبو محمد، أي: أخطأ، سماه كذباً لأنه شبيه في كونه ضد الصواب، كما أن الكذب ضد الصدق، وإن افترقا من حيث النية والقصد، لأن الكاذب يعلم أن ما يقوله كذب، والمخطئ لا يعلم. وهذا الرجل ليس بمخبر، وإنما قاله باجتهاد أداه إلى أن الوتر واجب. والاجتهاد لا يدخله الكذب، وإنما يدخله الخطأ. وأبو محمد: صحابيٌّ اسمه مسعود بن زيد. وقد استعملت العرب الكذب في موضع الخطأ. قال الأخطل: كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ *** غلس الظلام من الرباب خيالا انتهى. الرابع: البطول، كذب الرجل، بمعنى بطل عليه أمله وما رجاه. قال أبو دوادٍ الإيادي: قلت لما ظهرا في قنةٍ *** كذب العير وإن كان برح معناه كذب العير أمله، وبطل عليه ما قدر، لأنه كان أمل السلامة مني لما برح. وتفسير برح أخذ من جهة شمالي ماضياً على يميني، فلما قلبت عليه الرمح وطعنته بطل عليه ما كان أمل من التخلص والسلامة. وقد قيل في هذا البيت: كذبتم وبيت الله لا تأخذونه *** مغالبةً ما دام للسيف قائم إن معناه: كذبكم أملكم. ومثله أيضاً قوله: كذبتم وبيت الله لا تنكحونه *** بني شاب قرناها تصر وتحلب تقديره: كذبكم أملكم. وفسر قول أبي طالب: كذبتم وبيت الله نبزي محمد *** ولما نطاعن دونه ونناضل معناه: بطل عليكم ما أملتم. وقال بعض أهل اللغة في قول الله تعالى: {انظر كيف كذبوا على أنفسهم}: انظر كيف بطل عليهم أملهم، لأنهم لما قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين، رجوا أن يزول عنهم بهذا القول البلاء، ولم يحلفوا على الذي أقسموا عليه، إلا وهو في معتقدهم حق؛إذ كانوا في حالة ما أقسموا، على ما قدروه في دار الدنيا، من أن الشرك غير شرك، وأن الكفر هدًى وإيمان. ومن كانت هذه سبيله فليس كذبه إلا من جهة بطول أمله. وقد خولف هذا اللغوي. انتهى. ومنه قول سيبويه: وهو محالٌ كذب، أي: باطل وفاسد، قاله في الكلام المختل، وهو الذي لا تحصل فائدته، نحو: سوف أشرب ماء البحر أمس، وقد شربت ماء البحر غداً. قال أبو حيان في تذكرته: وخالفه فيه أصحابه: الأخفش، والمازني، والمبرد، فقالوا: هذا القسم محالٌ وليس كذب، لأنه لا يحصل له معنى. والكذب سبيله أن يقع لما يخاطب بمعناه. قال أبو بكر: وقول سيبويه عندي صحيح، لأن الكذب يقع على الفاسد من القول، كما يقع الصدق على الصحيح منه. وجائزٌ عندي أن يقال محالٌ لكل ما لا يحصل معناه من الخطأ والكذب، من حيث أن تأميل المحال في اللغة المغير عن الصواب، المزال عن طريق الصحة. فمن كذب وأخطأ في قول يفهم عنه، فقد أحال. انتهى. قال ابن الأنباري: ومما يدل على أن كذب بمعنى أخطأ، وهو مصحح لقول سيبويه، ومبطل لمذهب مخالفيه: أن عروة بن الزبير ذكر عند عمر بن عبد العزيز ما كانت عائشة رضي الله عنها تخص به عبد الله بن الزبير من البر والأثرة والمحبة، فقال له عمر: كذبت! وبالحضرة عبيد الله بن عبد الله، فقال: إني ما كذبت، وإن أكذب الكاذبين لمن كذب الصادقين. قال أبو بكر: فلا يحمل هذا من قول عمر بن عبد العزيز إلا على أنه أراد أخطأت، إذ المعنى الآخر يلزم عمر كذباً فيأثم. وجواب عروة وقع على غير المعنى الذي قصد له عمر؛ لأنه حين غضب حمل كذب على معنى قلت غير الحق. ومثله قول معاوية للناس: كيف ابن زياد فيكم؟ قالوا: ظريفٌ على أنه يلحن. قال: فذاك أظرف له. أراد القوم بقولهم يلحن: يخطئ، وذهب معاوية إلى أنهم أرادوا يلحن بمعنى يفطن ويصيب، من قول العرب: فلانٌ ألحن بحجته من فلان. وقد حكي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حكي له عن صحابي روايةٌ رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كذب، يعني أخطأ. لا محتمل لهذا غير التأويل، إذ هم معادن التقوى والورع، وأرباب الصدق والفضل، وصفهم الله بالصدق، بقوله: وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون . ويقال: كذبت الرجل، إذا كذبته فيما هو فيه كاذب. وكذبته إذا نسبته إلى الكذب فيما هو صادق. قال الله تعالى: {فإنهم لا يكذبونك} أراد لا يصححون عليك الكذب، وإن نسبوك إليه. قال أبو بكر: وقد أجبت عنها بجوابٍ آخر، فإنهم لا يكذبونك بقولهم، عندما ينسبونك إلى الكذب بألسنتهم، لأنه عليه الصلاة والسلام كان عندهم علماً في الصدق قبل النبوة وبعدها، ولذلك كانوا يدعونه: الأمين. وأنشدنا أحمد بن يحيى لابن الدمينة: حلفت لها أن قد وجدت من الهوى *** أخا الموت لا بدعاً ولا متأشبا وقد زعمت لي ما فعلت فكيف بي *** إذا كنت مردود المقال مكذبا أراد منسوباً إلى الكذب، فيما أنا فيه محقٌّ صادق. والمعنى الخامس من المعاني كذب: الإغراء. وقد تقدم الكلام فيه في أول الشاهد. وأنشد بعده: وذبيانيةٍ أوصت بنيه *** بأن كذب القراطف والقروف على أن كذب فيه مستعملٌ في الإغراء، والقراطف فاعله، والمعنى على المفعولية، أي: عليكم بالقراطف وبالقروف فاغنموهما. وتقدم ما يتعلق بكذب في البيت الذي قبله: تجهزهم بما استطاعت وقالت *** بني فكلكم بطلٌ مسيف فأخلفنا مودتها ففاظت *** ومأقي عينها حدرٌ نطوف والأبيات من قصيدةٍ لمعقر البارقي، وكان حليفاً لبني نمير، ومدحهم فيها، وذكر ما فعلوا ببني ذبيان. وقد تقدمت ترجمته مع شرحها في الشاهد الثالث والثلاثين بعد الثلثمائة. وهذا شرحها باختصار. يقول: رب امرأة ذبيانية، أمرت بنيها أن يكثروا من نهب هذين الشيئين إن ظفروا ببني نمير، وذلك لحاجتهم، وقلة مالهم. والقراطف: جمع قرطف كجعفر، وهو كساء مخمل. والقروف: جمع قرف بفتح القاف وسكون الراء: وعاء من جلد يدبغ بالقرفة بالكسر، وهي قشور الرمان، يجعل فيه الخلع بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام، وهو لحم يطبخ بالتوابل يوضع في القرف ويزود به في الأسفار. وبني: منادى. والمسيف: الذي قد هلك إبله ومواشيه. يقال: أساف الرجل، أي: هلكت مواشيه بالسواف بفتح السين المهملة وضمها، وهو مرض الدواب وطاعونها. يعني أن أولادها فقراء قد هلكت مواشيهم. تحرضهم على الغنيمة. وقوله: فأخلفنا مودتها إلخ، أي: أخلفنا مأمولها. وفاظت: ماتت. والمأقي: لغة في الموق، وهو طرف العين من ناحية الأنف. وحدر وصفٌ بمعنى منحدر. ونطوف: سائل، يقال: نطف الماء، إذا سال. يعني ماتت، وهي في هذه الحالة. وأنشد بعده الشاهد الرابع والخمسون بعد الأربعمائة يا أيها المائح دلوي دونك *** إني رأيت الناس يحمدونكا على أن معمول اسم الفعل يجوز تقدمه عليه كما هنا؛ فإن قوله: دلوي مفعول دونكا، والمعنى: خذ دلوي ومنعه البصريون فجعلوا دلوي مبتدأ ودونك ظرفاً لا اسم فعل، أي: دلوي قدامك فخذها، فدونك ظرف خبر المبتدأ. وقد بين الفراء مذهب الكوفيين في تفسيره، عند قوله تعالى: {كتاب الله عليكم} من سورة النساء، قال: قوله: كتاب الله عليكم كقولك: كتاباً من الله عليكم. وقد قال بعض أهل النحو: معناه عليكم كتاب الله. والأول أشبه بالصواب. وقلما تقول العرب: زيداً عليك، وزيداً دونك، وهو جائز، كأنه منصوب بشيء مضمر قبله. وقال الشاعر: يا أيها المائح دلوي دونكا الدلو رفع، كقولك: زيد فاضربوه: هذا زيدٌ فاضربوه. والعرب تقول: الليل فبادروا. وتنصب الدلو بمضمر في الخلفة كأنك قلت: دونك دلوي دونك. انتهى. وتعقبه الزجاج في تفسيره قال في كتاب الله: منصوب على التوكيد، محمول على المعنى؛ لأن المعنى: حرمت عليكم أمهاتكم، كتب الله عليكم هذا كتاباً. وقد يجوز أن يكون منصوباً على جهة الأمر، ويكون عليكم مفسراً له، فيكون المعنى: الزموا كتاب الله عليكم. ولا يجوز أن سكون منصوباً ب عليكم لأن قولك: عليك زيداً ليس له ناصب في اللفظ متصرف، فيجوز تقديم منصوبه. وقول الشاعر: يا أيها المائح دلوي دونكا يجوز أن يكون دلوي في موضع نصب بإضمار: خذ دلوي، ولا يجوز أن يكون على: دونك دلوي، لما شرحنا. ويجوز أن يكون دلوي في موضع رفع، المعنى: هذه دلوي دونك. انتهى. وقد أورد هذه المسألة ابن الأنباري في مسائل الخلاف فقال: ذهب الكوفيون إلى أن عليك وعندك ودونك يجوز تقديم معمولاتها كما في الآية والبيت، ولأنها قامت مقام الفعل فتعمل كعمله. ومنعه البصريون والفراء وقالوا: إن كتاب الله منصوب بكتب مقدراً، وإن دلوي خبر مبتدأ مقدر، ومنصوب بفعل محذوف كخذ، يفسره دونك، لا بدونك. وأجابوا عن الثاني بأن الفعل متصرف في نفسه فتصرف في عمله، وهذه الألفاظ لا تستحق عملاٍ وإنما أعملت لقيامها مقام الفعل، وهي غير متصرفة في نفسها فلا تتصرف في عملها، فلا يقدم معمولها. انتهى. وقوله: إن الفراء تبع البصريين، مخالف لنص كلامه، فإنه صرح بجواز عمله مؤخراً ومحذوفاً. وردهما الزجاج، وجعل دلوي منصوباً بفعل محذوف يفسرهدونك. فدونك على هذا اسم فعل قد حذف مفعوله، أي: دونكه. ويكون في جعله دلوي خبر مبتدأ محذوف، دونك ظرفاً في موضع الحال، لا اسم فعل. وهذان الوجهان غير ما وجه به الشارح المحقق، وإنما حكاه عن البصريين، لأنه تخريجٌ موافق لقواعدهم. وقد وجه به أيضاً ابن هشام في: شرح القطر، وفي المغني. وقول الشيخ خالد في التصريح: وفيه نظرٌ لأن المعنى ليس على الخير المحض حتى يخبر عن الدلو بكونه دونه، لا وجد له، كما قال عبد الله الدنوشري: وما المانع من أن يكون خبراً محضاً قصد به التنبيه على أن الدلو أمامه، ويكون الدال على الأمر بأخذ الدلو مقدراً. والتقدير: فتناوله. وجوز ابن مالك أن يكون دلوي منصوبا بدونك مضمرة، مدلولاً عليها بدونك المذكورة، مستنداً لقول سيبويه في زيداً عليك: كأنك قلت: عليك زيداً. وقد رده الزجاج وغيره. قال ابن هشام في المغني: شرط الحذف ألا يؤدي إلى اختصار المختصر، فلا يحذف اسم الفاعل دون معموله، لأنه اختصار للفعل. وأما قول سيبوبه في: زيداً فاقتله، وفي: شأنك والحج، وقوله: يا أيها المائح دلوي دونكا إن التقدير: عليك زيداً، وعليك الحج، ودونك دلوي، فقالوا: إنما أراد تفسير المعنى لا الإعراب، وإنما التقدير: خذ دلوي، والزم زيداً، والزم الحج. ويجوز في دلوي أن يكون مبتدأ ودونك خبره. انتهى. وظاهره أن البيت ذكره سيبويه في كتابه. وليس كذلك، فإنه لم يورده في البتة. ولم يورد الدماميني هنا شيئاً سوى ما نقله عن الشارح المحقق من أنه لا يجوز تقدم معمول اسم الفعل عليه. والمائح: فاعل من الميح بالمثناة التحتية والحاء المهملة، قال صاحب الصحاح: المائح الذي ينزل البئر فيملأ الدلو، وذلك إذا قل ماؤها، والجمع ماحةٌ، وقد ماح يميح. وأنشد هذا البيت. وأما الماتح بالمثناة الفوقية فهو الذي يستقي الماء، يقال: متح الماء يمتحه متحاً، من باب فتح، إذا نزعه بالدلو. وبئر متوح للتي يمد منها باليدين على البكرة. والبيتان لراجز جاهلي من بني أسيد بن عمرو بن تميم، ولهما قصة أوردها أبو رياش، وأبو عبد الله النمري، وأبو محمد الأسود الأعرابي، في شروحهم لحماسة أبي تمام. قال أبو محمد الأسود: أملى علينا أبو الندى، قال: كان وائل بن صريم الغبري ذا منزلة من الملوك ومكان عندهم، وكان مفتوق اللسان حلوه، وكان جميلا، فبعثه عمرو بن هند اللخمي ساعياً على بني تميم، فاخذ الإتاوة منهم حتى استوفى ما عندهم، غير بني أسيد بن عمرو بن تميم، وكانوا على طويلع، فأتاهم، فنزل بهم، وجمع النعم والشاء، فأمر بإحصائه، وفيما هو قاعدٌ على بئرٍ، أتاه شيخٌ منهم فحدثه، فغفل وائل، فدفعه الشيخ، فوقع في البئر، فاجتمعوا، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، وهم يرتجزون ويقولون: يا أيها المائح دلوي دونك *** إني رأيت الناس يحمدونكا إنما هذا هزءٌ به، فبلغ الخبر أخاه باعث بن صريم، فعقد لواءً، ونادى في غبر فساروا، وآلى أن يقتلهم على دم وائل حتى يلقي الدلو، فتمتلئ دماً؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟! فقتل باعث منهم ثمانين رجلاً، وأسر عدة، وقدم رجلاً منهم يقال له: قمامة، فذبحه حتى ألقى دلوه، فخرجت ملأى دماً. ولم يزل يغير عليهم زماناً، وقتل منهم فأكثر، حتى أن المرأة من بني أسيد كانت تعثر، فتقول: تعست غبر، ولا لقيت الظفر، ولا سقيت المطر، وعدمت النفر. وقال باعث في ذلك: سائل أسيد هل ثأرت بوائلٍ *** أم هل أتيتهم بأمرٍ مبرم إذ أرسلوني مائحاً لدلائهم *** فملأتها حتى العراقي بالدم انتهى. والغبري: نسبة إلى غبر بضم الغين المعجمة وفتح الموحدة، قبيلة. وأسيد بضم الهمزة وفتح السين وتشديد الياء المكسورة. وقد أنشدتهما جاريةٌ من بني مازن وضمت إليهما بيتين آخرين. وقال الصغاني في العباب في مادة الميح، ونقله العيني: ومنه حديث البراء بن عازب رضي الله عنه: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على بئرٍ ذمةٍ فنزلناها ستةً ماحةً، ونزل فيها ناجية بن جندب الأسلمي رضي الله عنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدلت جاريةٌ من بني مازن دلوها وقالت: يا أيها المائح دلوي دونك *** إني رأيت الناس يحمدونكا يثنون خيراً ويمجدونك *** خذها إليك اشغل بها يمينكا فأجابها ناجية: قد علمت جاريةً يمانيه *** أني أنا المائح واسمي ناجيه وطعنةٍ ذات رشاشٍ واهيه *** طعنتها تحت صدور العاديه انتهى. وبئر ذمة بالوصف، أي: قليلة الماء، أي: إنها تذم لقلة مائها. والذميم: الماء المكروه. ومازن: اسم ثلاث قبائل في عدنان. وهذا يخالفه قول ناجية: قد علمت جاريةٌ يمانيه فإن أهل اليمن كلهم من قحطان. وأثنى عليه خيراُ، من الثناء، وهو الوصف الجميل، فعليك في الرجز مقدرة. ويمجدونك: يذكرونك بالمجد، وهو العز والشرف والكرم. وشغل من باب نفع. وطعنة، أي: رب طعنة. ورشاش الطعنة بالفتح: الدم المتطاير منها. وأرشت الطعنة بالألف: نفذت فأنهرت الدم. كذا في المصباح. وزعم الشامي في السيرة أنه بالفتح جمع رش، والمراد به المطر القليل. هذا كلامه. وواهية: صفة طعنة، أي: منشقة مسترخية. والعادية، قال الشامي: هم الذين يعدون: يسرعون الجري. وأخذ العيني من ظاهر نقل الصاغاني أن البيتين الأولين لتلك الجارية، وليس كذلك. وروى السيوطي في شواهد المغني عن البيهقي في الدلائل، عن ابن إسحاق، قال: زعمت أسلم أن جارية من الأنصار أقبلت بدلوها عام الحديبية، وناجية بن جندب الأسلمي صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القليب يميح على الناس، فقالت. وأنشد الشعرين: خذها إليك اشغل بها يمينكا وقوله: جارية من الأنصار يوافقه قوله: جارية يمانية، فإن أصل الأنصار من اليمن. وكذا روى الشامي في السيرة. وزعم ابن الشجري في أماليه أن البيتين لرؤبة، وأنه لم يستسق ماءً في الحقيقة، وإنما طلب عطاء. وكلاهما لا أصل له كما عرفت. والبيت الذي لرؤبة إنما هو هذا: كأنها دلو بئر جد ماتحه *** حتى إذا ما رآها خانه الكرب أي: كأن الناقة في السرعة دلوٌ ملأى وصلت إلى فم البئر، ثم انقطع حبلها فهوت فيها. والماتح هنا بالمثناة الفوقية، هو الذي يستقي على رأس البئر. والكرب بفتحتين: الحبل الذي يشد على عرقوة الدلو. وروى الزجاجي في أماليه قال: حدثنا ابن دريد، قال: أخبرنا أبو حاتم قال: أخبرنا أبو عبيدة، قال: كتبت امرأةٌ من العرب إلى طلحة الطلحات: يا أيها الماتح دلوي دونك *** إني رأيت الناس يحمدونكا يثنون خيراً ويمجدونكا فلما قرأ طلحة الكتاب أحب أن لا يفطن الرسول، فقال: ما أيسر ما سألت، إنما سألت جنبة. ثم أمر بجنبةٍ عظيمة فقورت وملئت دنانير، وكتب إليها: إنا ملأناها تفيض فيض *** فلن تخافي ما حييت غيضا خذي لك الجنب وعودي أيضاً وغيضاً، من غاض الماء في الأرض، إذا غار فيها، وانمحق. وأنشد بعده: ألا أيها الطير المربة بالضحى *** على خالدٍ لقد وقعت على لحم على أن تنوين لحمٍ للإبهام والتفخيم، أي: لحم، وأي لحم. تقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الثامن والأربعين بعد الثلثمائة من باب النعت. وأنشد بعده: الشاهد الخامس والخمسون بعد الأربعمائة وقفنا فقلنا إيه عن أم سالم *** وما بال تكليم الديار البلاقع على أن ابن السكيت والجوهري، قالا: إنما جاء ذو الرمة هنا ب إيه غير منون، مع أنه موصولٌ بما بعده: لأنه نوى الوقف. هذا الكلام نقله الجوهري عن ابن السكيت، ثم نقل عن ابن السري الزجاج أنه قال: إذا قلت: إيه يا رجل، فإنما تأمره بأن يزيدك من الحديث المعهود بينكما، كأنك قلت: هات الحديث. فإن قلت: إيهٍ بالتنوين فكأنك قلت: هات حديثاً ما؛ لأن التنوين تنكير. وذو الرمة أراد التنوين فتركه للضرورة. انتهى. وإنما كان ترك التنوين ضرورةً لأنه أراد من الطلل أن يخبره عنها أي حديثٍ كان، وليس فيه ما يقتضي أن يحدثه حديثاً معهوداً. كذا قيل، وفيه أنه إنما طلب حديثاً مخصوصاً، وهو الحديث عن أم سالم. وبه يسقط قول ثعلب في أماليه: تقول العرب: إيه بالتنوين بمعنى حدثنا. وأما قول ذي الرمة فإنه ترك التنوين وبنى على الوقف، ومعناه إيه، أي: حدثنا. قال ابن جني في سر الصناعة: تنوين التنكير لا يوجد في معرفة، ولا إلا تابعاً لحركات البناء، وذلك نحو:إيه، فإذا نونت، وقلت: إيهٍ فكأنك قلت: استزادةً. وإذا قلت: إيه، فكأنك قلت: الاستزادة. فصار التنوين علم التنكير، وتركه علم التعريف. قال ذو الرمة: وقفنا فقلنا إيه عن أم سالمٍ فكأنه قال: الاستزادة. وأما من أنكر هذا البيت على ذي الرمة فإنما خفي عليه هذا الموضع. هذا كلامه. وفي شرح الصفار لسيبويه: وأما إيه فمعناه حدث وزد؛ لكن هو لازم، لا يقال: إيه كذا. قال أبو حيان: قد استعمله بعض الشعراء المولدين متعدياً، فقال: إيهٍ أحاديث نعمانٍ وساكنه وقال آخر: إيهٍ حديثك عن أخبارهم إيه والبيت من قصيدة طويلة لذي الرمة، وهذا مطلعها: خليلي عوجا عوجةً ناقتيكم *** على طللٍ بين القلات وشارع به ملعبٌ من معصفاتٍ نسجنه *** كنسج اليماني برده بالوشائع وقفنا فقلنا إيهٍ ***..............البيت وقوله: عوجا عوجة، يقال: عجت البعير أعوجه عوجاً ومعاجاً، إذا عطفت رأسه. والتاء في عوجةً للمرة. وناقتيكما: مفعول عوجا. والطلل: ما بقي في الدار من أثر الراحلين، كالأثفية ونحوها. والقلات، بكسر القاف وآخره مثناة، وسارع بالمهملات: موضعان. وقوله: به ملعب إلخ، المعصفة: الريح الشديدة، يقال: عصفت الريح وأعصفت. ونسجنه، أي: ذهبت عليه الريح، وجاءت كالنسج. والوشائع: جمع وشيعة، من وشعت المرأة الغزل على يدها: خالفته. وتوشعت الغنم في الجبل، أي: اختلفت. وقوله: وقفنا فقلنا إلخ، أي: وقفنا عليه، أي الطلل. والعطف بالفاء لا بالواو كما في الشرح. قال الأصمعي: أساء في قوله: إيه بلا تنوين. والبال: الشأن والحال. وما: استفهامٌ إنكاريٌّ، أي: ليس من شأنها الكلام. والديار البلاقع: التي ارتحل سكانها، فهي خالية. طلب الحديث من الطلل أولاً ليخبره عن محبوبته أم سالم، وهذا من فرط تحيره وتدلهه في استخباره مما لا يعقل، ثم أفاق وأنكر من نفسه بأنه ليس من شأن الأماكن الإخبار عن السواكن. وترجمة ذي الرمة تقدمت في الشاهد الثامن في أول الكتاب. وأنشده بعده: الشاهد السادس والخمسون بعد الأربعمائة تذر الجماجم ضاحياً هاماته *** بله الأكف كأنها لم تخلق على أنه قد روي الأكف بالحركات الثلاث. أول البيت: فترى الجماجم، وقبله: نصل السيوف إذا قصرن بخطون *** قدماً ونلحقها إذا لم تلحق وإنما ينشدونه: تذر الجماجم ليعرى من التعلق بما قبله. والقدم بضمتين: والقبل بضمتين أيضاً، كذا في المصباح. وقال صاحب الصحاح: ومضى قدماً بضم الدال: لم يعرج ولم ينثن. ويجوز أن يكون بكسر القاف وسكون الدال، اسمٌ من القدم، أي: جلاف الحدوث، وهو ظرف لقوله: نصل. قال الجاحظ في كتاب البيان: إن الفارس ربما زاد في طول رمحه ليخبر عن فضل قوته؛ ويخبر عن قصر سيفه، ليخبر عن فضل نجدته. وأنشد هذا البيت ونظائره. وقوله: فترى الجماجم إلخ، الرؤية بصرية: والجماجم: مفعول الرؤية. وضاحياً: حال سببية من الجماجم، وهاماتها: فاعل ضاحياً وهو من ضحا يضحو: إذا ظهر وبرز عن محله. والجماجم: جمع جمجمة، قال صاحب المصباح: هي عظم الرأس المشتمل على الدماغ، وربما عبر عنها عن الإنسان، فيقال: خذ من كل جمجمةٍ درهماً، كما يقال: خذ من كل رأس، بهذا المعنى. وقال أيضاً: الهامة من الشخص: رأسه. فالمناسب هنا أن الجمجمة بمعنى الإنسان. وقد فرق الزجاج في كتاب خلق الإنسان بين الجمجمة والهامة، فقال: عظم الرأس الذي فيه الدماغ، يقال له: الجمجمة، والهامة: وسط الرأس ومعظمه. وزعم الدماميني في الشرح المزج على المغنى أنه يصح أن تكون الجماجم هنا القبائل التي تجمع البطون، فينسب إليها دونهم. فمعنى: بله الأكف، على رواية نصب الأكف: إنك ترى رؤوس الرجال، أي: بعض الرؤوس بارزة عن محلها بضرب السيوف، كأنها لم تخلق على الأبدان، فدع ذكر الأكف، فإن قطعها من الأيدي أهون بالنسبة إلى الرؤوس. فبله على هذا: اسم فعل. وعلى الجر: إنك ترى تطاير الرؤوس عن الأبدان، فتركاً لذكر الأكف، أي: فاترك ذكرها تاركاً؛ فإنها بالنسبة إلى الرؤوس سهلة. فبله على هذا مصدرٌ مضاف. وعلى الرفع: إنك ترى الهامات ضاحية عن الأبدان، فكيف الأكف لا تكون ضاحية عن الأيدي! يعني: إذا جعلت السيوف الأبدان بلا رؤوس، فلا عجب أن تترك الأيدي بلا أكف. فبله بمعنى كيف للاستفهام التعجبي. فبله الأكف على الأول والثالث جملة اسمية، وفتحة بله بنائية. وعلى الثاني جملة فعلية حذف صدرها، والفتحة إعرابية. وهي بالمعنى الأول والثاني مأخوذة من لفظ البله والتباله، وهي من الغفلة؛ لأن من غفل عن شيء تركه، ولم يسأل عنه. وكذلك هنا، أي: لا تسأل عن الأكف إذا كانت الجماجم ضاحيةً مقطعة. كذا في الروض الأنف للسهيلي. قال أبو علي في إيضاح الشعر: قال سيبويه: أما بله زيدٍ فبله هنا بمنزلة المصدر، كما تقول: ضرب زيد. فمن قال بله زيدٍ جعله مصدراً. ولا يجوز أن تضيف ويكون مع الإضافة اسم الفعل، لأن هذه الأسماء التي يسمى بها الأفعال لا تضاف. ألا ترى أنه قال: جعلوها بمنزلة النجاءك، أي: لم يضيفوها إلى المفعول به، كما أضافوا أسماء الفاعلين والمصدر إليه. فهي في قوله على ضربين: مرةً تجرى مجرى الأسماء التي تسمى بها الأفعال، ومرة تكون مصدراً. قال أبو زيد: إن فلاناً لا يطيق أن يحمل الفهر من بلهٍ أن يأتي بالصخرة؛ يقول: لا يطيق أن يحمل الفهر، فمن بله أن يأتي بالصخرة، فكيف يطيق أن يحمل الصخرة. قال: وبعض العرب يقول: من بهل أن يحمل الصخرة، فقلب. وأنشد: نذر الجماجم...... ***.............البيت فما حكاه أبو زيد من دخول من عليه والإضافة والقلب، يدل على أنه مصدر وليس باسم فعل، لأن أسماء الفعل لا تضاف، ولا يدخل عليها عوامل الأسماء. ألا ترى أن أبا الحسن يقول: إن دونك ليس ينتصب على انتصابه قبل. ويقوي كونه مصدراً أن أبا عمرٍو الشيباني حكى: ما بلهك لا تفعل كذا، أي: ما لك. ومن الناس من ينشده: بله الأكف بالنصب. فهذا على هذا الإنشاد اسم فعل، كأنه قال دع الأكف، فجعلها اسماً لدع. والدلالة على جواز كونها اسماً للفعل كما أجاز سيبويه، قول الشاعر: يمشي القطوف إذا غنى الحداة به *** مشي الجواد فبله الجلة النجبا فأما ما يتعلق به من فيما حكاه أبو زيد من قوله: فمن بله فهو ما ينتصب عليه بله في من جعله مصدراً وأضاف. وهذا خلاف ما قاله الشارح المحقق؛ فإنه جعل بله فيما حكاه أبو زيد بمعنى كيف. ولم يتعرض أبو علي في هذا الكتاب بمجيء بله بمعنى كيف. ونقل الشارح عنه لعله من غير هذا الكتاب. ونقل عنه ابن هشام في المغني: نقيض ما نقله الشارح عنه، فقال: وإنكار أبي عليٍّ أن يرتفع ما بعدها، مردودٌ بحكاية أبي الحسن وقطرب له. انتهى. والقطوف من الدواب وغيره: البطيء. والجلة، بكسر الجيم: جمع جليل، كصبية جمع صبي، وهو المسن من الإبل. والنجب، بضمتين: جمع نجيب، وهو الأصيل الكريم. والمعنى أن البطيء يمشي كمشي الجواد من الخيل مع الحداء، فدع الإبل الكرام، فإنها مع الحداء تسرع أكثر من غيرها. ورواه صاحب الصحاح: مشي النجيبة بله الجلة النجبا ونسبه إلى ابن هرمة. وقال أبو حيان في تذكرته:هذا الذي تأوله سيبويه في الخفض من نيابة بله عن المصدر المضاف إلى المخفوض عند الكوفيين على معنيين: إن كان المخفوض بتأويل مرفوع، وتقدير ضرب: ليضرب زيدٌ، فالكلام صحيح. وإن كان تقدير المخفوض النصب والتأويل اضرب زيداً فالكلام عندهم خطأ، لأن المصدر الذي يتعدى فعله إلى المفعول إذا أفرد بواحدٍ أضيف إليه ولم يذكر معه غيره، فلا بد من أن يكون ذلك الواحد مرفوعاً، لأن الفعل لا يخلو من الفاعل وما يجرى مجراه، فيعجبني ركوب الفرس، موضع الفرس عند الكوفيين رفع لا غير، لأن معناه يعجبك أن يركب الفرس. وجواز البصريون أن يكون منصوباً بتأويل أن يركب الفرس، أي: يركب راكبٌ الفرس. ورد الكوفيون هذا واحتجوا بأن المصدر لا يحتمل ضميراً من الفاعل فإذا أضيف إلى الفرس، والفرس منصوب بقي الركوب بلا فاعل له مظهر ولا مضمر، وفي هذا فساد التركيب. وقال البصريون: عملت على الاختصار ومعرفة المخاطب بأن للركوب فاعلاً وإن لم يكن مظهراً ولا مضمراً. وقال الكوفيون: ما وجدنا فاعلاً خلا الفعل من إظهاره معه وإضماره فيه، وما يصل إلى إظهار الفاعل ولا إضماره مع المصدر إذا انفرد واحد. والمصدر على الفعل مبنيٌّ، فما لم يعرف صحته مع الفعل، فهو سقيم مع المصدر. انتهى. والبيتان من قصيدة لكعب بن مالك، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالها في وقعة الأحزاب، وأوردها أصحاب السير والمغازي في كتبهم وهي: من سره ضربٌ يرعبل بعضه *** بعضاً كمعمعة الأباء المحرق فليأت مأسدةً تسن سيوفه *** بين المذاد وبين جزع الخندق دربوا بضرب المعلمين فأسلمو *** مهجات أنفسهم لرب المشرق في عصبةٍ نصر الإله نبيه *** بهم وكان بعبده ذا مرفق في كل سابغةٍ تخط فضوله *** كالنهي هبت ريحه المترقرق بيضاء محكمةٍ كأن قتيره *** حدق الجنادب ذات شكٍّ موثق جدلاء يحفزها نجاد مهندٍ *** صافي الحديدة صارمٍ ذي رونق تلكم مع التقوى تكون لباسن *** يوم الهياج وكل ساعةٍ مصدق نصل السيوف إذا قصرن بخطون *** قدماً ونلحقها إذا لم تلحق فترى الجماجم ضاحياً هاماته *** بله الأكف كأنها لم تخلق نلقى العدو بفخمةٍ ملومةٍ *** تنفي الجموع كقصد رأس المشرق ونعد للأعداء كل مقلصٍ *** وردٍ ومحجول القوائم أبلق تردي بفرسان كأن كماتهم *** عند الهياج أسود طلٍّ ملثق صدقٍ يعاطون الكماة حتوفهم *** تحت العماءة بالوشيج المزهق أمر الإله بربطها لعدوه *** في الحرب إن الله خير موفق لتكون غيظاً للعدو وحيط *** للدار إن دلفت خيول النزق ويعيننا الله العزيز بقوةٍ *** منه وصدق الصبر ساعة نلتقي ونطيع أمر نبينا ونجيبه *** وإذا دعا لكريهةٍ لم نسبق ومتى ينادي للشدائد نأته *** ومتى نرى الجومات فيها نعنق من يتبع قول النبي فإنه *** فينا مطاع الأمر حق مصدق فبذاك ينصرنا ويظهر عزن *** ويصيبنا من نيل ذاك بمرفق إن الذين يكذبون محمد *** كفروا وضلوا عن سبيل المتقي قوله: من سره ضرب إلخ، رعبله: قطعه. والمعمعة، قال صاحب الصحاح: هو صوت الحريق في القصب ونحوه، وصوت الأبطال في الحرب. وأنشد هذا البيت. والأباء: القصب، واحدتها أباءة، كسحابً وسحابة، وقيل أجمة الحلفاء والقصب خاصة. كذا في الصحاح. وقال السهيلي في: الروض الأنف: والهمزة الأخيرة بدل من ياء، قاله ابن جني، لأنه عنده من الإباية، كأن القصب يأبى على من أراده بمضغٍ ونحوه. ويشهد لما قاله قول الشاعر: يراه الناس أخضر من بعيدٍ *** وتمنعه المرارة والإباء والمحرق: اسم مفعول. وقوله: فليأت مأسدة إلى آخره هذا جواب الشرط. قال السهيلي: المأسدة: الأرض الكثيرة الأسد، وكذلك المسبعة: الأرض الكثيرة السباع. ويجوز أن يكون جمع أسد، كما قالوا مشيخة ومعلجة. حكى سيبويه: مشيخة ومشيوخاء، ومعلجة ومعلوجاء. قوله: تسن سيوفها، قال السهيلي: نصب الفاء هو الصحيح عند القاضي أبي الوليد، ووقع في الأصل عند أبي بحر برفعها. ومعنى الرواية الأولى: تسن، أي: تصقل. ومعنى الثانية، أي: تسن للأبطال ولمن بعدها من الرجال سنة الجرأة والإقدام. والمذاد، قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم: هو بفتح الميم، بعدها ذال معجمة، والآخر دال مهملة، الموضع الذي حفر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق. وقال السيوطي في شواهد المغني: هو أطم بالمدينة. وقال الشامي: هو لبني حرام غربي مساجد الفتح، سميت به الناحية. والجزع بكسر الجيم: منعطف الوادي. قال الشامي: وهو هنا جانب الخندق. والخندق هنا هو خندق المدينة. وقوله: دربوا بضرب إلخ، قال صاحب الصحاح: الدربة بالضم: عادة وجرأة على الحرب وكل أمر، وقد درب بالشيء بكسر الراء، إذا اعتاده وضري به. والمعلمون بضم الميم وفتح اللام: الذين يعلمون أنفسهم بعلامات في الحرب يعرفون بها، وهم الشجعان هنا. وأسلموا: من أسلم أمره لله، أي: سلمه له. والمهجة هنا: الروح. وأراد برب المشرق رب المشرق والمغرب. وقوله: بعبده ذا مرفقٍ: مصدر كالرفق ضد العنف. قال أبو زيد: رفق الله بك ورفق عليك رفقاً ومرفقاً، بفتح الميم وكسر الفاء في الأول، وبالعكس في الثاني. وزاد غيره مرفقاً بفتح الميم والفاء، حكاه الصاغاني في العباب. وقوله: في كل سابغة إلخ، السابغة: الدرع الواسعة، وتخط بالبناء للفاعل. وفضولها: جمع فضل، وهو الزائد، أي: ينسحب ذيل الدرع على الأرض لطولها. والنهي بفتح النون: الغدير، وأهل نجد يكسرون النون. والمترقرق بالجر صفة للنهي، ومن ترقرق: إذا تحرك جاء وذهب. والريح إذا هبت على الماء حصلت هذه الصفة. وزعم السيوطي أنه بمعنى اللامع. وقوله بيضاء محكمة إلخ، البيضاء: المجلوة. والقتير، بفتح القاف وكسر المثناة الفوقية، قال صاحب الصحاح: رؤوس المسامير في الدروع، شبهها بعيون الجندب، وهو نوعٌ من الجراد، في البريق واللمعان. والشك: مصدر شككت الشيء، إذا ضممته إلى غيره، ومنه شك القوم بيوتهم، إذا جعلوها مصطفة متقاربة. وهو معنى قول الشامي: الشك هنا: إحكام السرد، وهو متابعة نسج حلق الدرع، وموالاته شيئاً فشيئاً حتى يتناسق. والموثق: المحكم المثبت. وقوله: جدلاء يحفزها إلخ، الجدلاء، بفتح الجيم: الدرع المحكمة النسج. ويقال: درع مجدولة أيضاً، من جدلت الحبل أجدله بالضم جدلاً، أي: فتلته فتلاً محكماً. ويحفزها، أي: يشمرها ويرفعها، بالحاء المهملة والفاء والزاء المعجمة. والنجاد: سيور السيف. والمهند السيف المطبوع من حديد الهند. قال السهيلي: هذا كقول ابن الأسلت في وصف الدرع: أحفزها عني بذي رونقٍ *** أبيض مثل الملح قطاع وذلك أن الدرع إذا طالت فضولها حفزوها، أي: شمروها فربطوها بنجاد السيف. وقال غيره: كانت العرب تعمل في أغماد السيوف أشباه الكلاليب، فإذا ثقلت الدرع على لابسها رفع ذيلها، فعلقه بالكلاب الذي في غمد السيف ليخف عليه. وصارم: قاطع. والرونق: جوهر السيف. وقوله: تلكم مع التقوى إلخ، الإشارة للدرع الموصوفة. قال السهيلي: هذا من أجود الكلام، انتزعه من قول الله تعالى: {ولباس التقوى ذلك خير}. وموضع الإجادة أنه جعله لباس الدروع تبعاً للباس التقوى، لأن حرف مع يفيد أن ما بعده هو المتبوع وليس بتابع. ويوم الهياج: يوم القتال. والمصدق، كجعفر: الحملة الصادقة على العدو، يقال للرجل الشجاع والفرس الجواد: إنه لذو مصدق، أي: صادق الحملة وصادق الجري، كأنه ذو صدق في وعد ذلك. وقوله: نصل السيوف إلخ، قد نظم هذا المعنى كثيراً. قال الأخنس بن شهاب: إذا قصرت أسيافنا كان وصله *** خطانا إلى أعدائنا فنضارب وقال السموءل بن عادياء: إذا قصرت أسيافنا كان وصله *** خطانا إلى أعدائنا فتطول وقال رجل من بني نمير: وصلنا الرقاق المرهفات بخطون *** على الهول حتى أمكنتنا المضارب وقال آخر: إذا الكماة تنحوا أن يصيبهم *** حد الظبات وصلناها بأيدينا وقال آخر: الطاعنون في النحور والكلى *** شزراً ووصالو السيوف بالخطى وقال آخر: إن لقيس عادةً تعتاده *** سل السيوف وخطًى تزدادها وهذا كله شعر جاهلي. وقال حميد بن ثور الهلالي الصحابي: ووصل الخطى بالسيف والسيف بالخطى *** إذا ظن أن السيف ذو السيف قاصر وله نظائر أخر ستأتي إن شاء الله تعالى في باب الظروف. وقوله: فترى الجماجم قد غيره النحويون إلى قولهم: تذر الجماجم وتقدم شرحه. قال السهيلي: خفض الأكف هو الوجه، وقد روي بالنصب لأنه مفعول، أي: دع الأكف، وبله كلمة معناها دع، وهي من المصادر المضافة إلى ما بعدها، وهي من لفظ البله، أي: الغفلة، لأن من غفل ترك، ولم يسأل عنه، وكذلك هذا، أي: لا تسأل عن الأكف، إذا كانت الجماجم ضاحيةً مقطعةً. قال الدماميني في الشرح المزج على المغني: الجمجمة: عظم الرأس المشتمل على الدماغ، والقبيلة تجمع البطون فينسب إليها دونهم. والبيت محتملٌ لكل من المعنيين. والمعنى على رواية رفع الأكف أن تلك السيوف تترك قبائل العرب الكثيرة بارزة الرؤوس للأبصار، كأنها لم تخلق في محالها من تلك الأجسام. وتترك تلك العظام المستورة مكشوفة ظاهرة، فكيف الأكف. أي: إذا كانت حالة الرؤوس هذه مع عزة الوصول إليها، فكيف حال الأيدي التي يتوصل إليها بسهولة. وعلى رواية النصب: أنها تترك الجماجم على تلك الحالة، دع الأكف فأمرها أيسر وأسهل. وعلى رواية الجر: أنها تترك الجماجم ترك الأكف منفصلةً عن محالها، كأنها لم تخلق متصلة بها. وقال ابن الملا في شرحه على المعني: الجمجمة: القحف، والعظم فيه الدماغ، والسيد، والقبيلة التي تنسب إليها البطون. ومتى أريد بالجماجم القبائل جاز أن يراد بالهامات رؤساؤها، وبالأكف من دونهم من الكفاة. ففي القاموس: الهامة: رأس كل شيء. ورئيس القوم. والمعنى على رواية الرفع أن تلك السيوف تترك تلك العظام المستورة ظاهرةً فكيف الأكف البادية، أي: إذا كانت حالة الرؤوس هذه مع عزة الوصول إليها، فكيف الأكف التي يتوصل إليها بسهولة، فإنها تدعها كأنها لم تخلق في محالها. ولا حاجة إلى دعوى المجاز في الأكف عن الأيدي، كما يفهم من صنيع الشارح. وتترك السادات من كل قبيلة والقبائل من العرب بارزة الرؤوس للأبصار بإبانتها عن محالها كأنها لم تخلق فيها. وتترك القبائل بارزاً رؤوسها للقتل، أي: مقتولة. وأراد بالأكف من يتقوى به من فرسان القبائل. وعلى النصب: أنها تترك الجماجم على تلك الحالة، دع الأكف فإن أمرها أيسر وأسهل. وعلى الجر: أنها تتركها ترك الأكف، منفصلة عن محالها، كأنها لم تخلق متصلة بها. انتهى. وهذا كله تكلف وتوسيعٌ للدائرة. وقوله: نلقى العدو إلخ، الفخمة: الجيش العظيم، من الفخامة وهي العظم. وملمومة: مجموعة. وقوله: كقصد رأس المشرق قال السهيلي: الصحيح ما رواه ابن هشام عن أبي زيد: كرأس قدس المشرق، لأن قدس جبلٌ معروف من ناحية المشرق. انتهى. وظاهره أنه بفتح الميم. وقول الشامي المشرق نعت ل قدس بمعنى جبل، إشارة إلى ضمة الميم، وهو اسم فاعل من الإشراق. والظاهر أن هذا هو الجيد. قال البكري في معجم ما استعجم: القدس، بضم القاف وسكون الدال: من جبال تهامة، وهو جبل العرج. قال ابن الأنباري: قدس: مؤنثة لاتنصرف؛ لأنها اسمٌ للجبل وما حوله. وقال ياقوت في معجم البلدان: قدس: جبلٌ عظيم بأرض نجد. قال ابن دريد: قدس أوارة: جبلٌ معروف. وأنشد الآمدي لبغيت: ونحن جلبنا يوم قدس أوارة *** قنابل خيلٍ تترك الجو أقتما وقال الأزهري: قدس أوارة: جبلان لمزينة، وهما معروفان بحذاء سقيا مزينة. وقال عرام: بالحجاز جبلان يقال لهما القدسان: قدس الأبيض، وقدس الأسود، وهما عند ورقان. أما الأبيض فهو جبلٌ شامخ بين العرج والسقيا. والقدسان جميعاً لمزينة. انتهى. فظهر بهذا أنه ليس جبلٌ في المشرق اسمه قدس، فالصواب ما قاله الشامي. وقوله: ونعد للأعداء، نعد: نهيئ، من الإعداد، وهو التهيئة. والمقلص، قال صاحب الصحاح: فرس مقلص، بكسر اللام، أي: مشرف طويل القوائم. والورد: الفرس الذي تضرب حمرته إلى الصفرة. والمحجول: الفرس المحجل، والتحجيل: بياضٌ في قوائم الفرس وفي ثلاثٍ منها، وفي رجليه، قل وكثر، بعد أن يجاوز الأرساغ، ولا يجاوز الركبتين والعرقوبين، لأنها مواضع الأحجال، وهي الخلاخيل والقيود. ولا يكون التحجيل واقعاً بيد ويدين ما لم يكن معها رجلٌ ورجلان. كذا في العباب للصاغاني. والأبلق: الفرس الذي فيه البلق بفتحتين، وهو سواد وبياض. وقوله: تردي بفرسان إلخ، قال صاحب الصحاح: ردى الفرس - بالفتح - يردي ردياً وردياناً: إذا رجم الأرض رجماً بين العدو والمشي الشديد. والكماة: جمع كمي، وهو الشجاع المتكمي في سلاحه، لأنه كمى نفسه، أي: سترها بالدرع. والبيضة. والطل: المطر الضعيف. والملثق: اسم فاعل صفة لطل، من اللثق بفتحتين، قال السهيلي: واللثق: ما يكون عن الطل من زلقٍ وطين. والأسد أجوع ما يكون، وأجرأ في ذلك الحين. وقال صاحب العباب: اللثق: الندى. قال كعب بن زهير: باتت له ليلةٌ جمٌّ أهاضبه *** وبات ينفض عنه الطل واللثقا وألثقه غيره. قال سلمة بن الخرشب: خداريةٌ فتخاء ألثق ريشه *** سحابة يومٍ ذي أهاضيب ماطر وقوله: صدقٌ يعاطون إلخ، بالرفع صفة أسود، وهو بضم الصاد جمع صدق بفتحها، والدال ساكنة معها، يقال رجلٌ صدق اللقاء، وصدق النظر، إذا مضى فيهما ولم يثنه شيء. والصدق أيضاً: الكامل المحمود من كل شيء. والصدق أيضاً: الصلب من الرماح، ويقال المستوي. ويعاطون: يناولون. والكماة: الشجعان، مفعول لأول، وحتوفهم مفعول ثان، وهو جمع حتف، وهو الهلاك. والعماءة بالمد، كالسحابة وزناً وومعنى. قال أبو زيد: العماء: السحاب، وهو شبه الدخان يركب رؤوس الجبال، وأراد به هنا الغبار الثائر في المعركة. ورواه الشامي: العماية بالياء، وفسره بالسحاب، وليس في الصحاح إلا ما ذكرنا. وإنما فيه: عماية: جبلٌ من جبال هذيل. والوشيج: الرماح، وأصبه شجر الرماح. والمزهق: اسم فاعل، المذهب للأرواح. وقوله: لتكون غيظاً للعدو وحيطا، قال الشامي: هو جمع حائط، اسم فاعل من حاط يحوط، أي: كلأه ورعاه. وأراد بالدار المدينة المنورة. ودلفت: قربت. والنزق: الأعداء، وهو جمع نزق بفتحٍ فكسر، من نزق نزقاً كفرح فرحاً. والنزق: الخفة والطيش وسوء الخلق. وهذا أصله. وقوله: وإذا دعا لكريهةٍ إلخ، الكريهة من أسماء الحرب، ونسبق بالبناء للمفعول. والحومات: جمع حومة، وهو موضع القتال. ونعنق: نسرع. قال في المصباح: العنق بفتحتين: ضربٌ من السير فسيح سريع، وهو اسمٌ من أعنق إعناقاً. وقوله: حق مصدق بفتح الدال المشددة مصدر، أي: تصديقاً حق تصديق. وترجمة كعب بن مالك الصحابي تقدمت في الشاهد السادس والستين. وأنشد بعده: الشاهد السابع والخمسون بعد الأربعمائة أعطيهم الجهد مني بله ما أسع على أن الأخفش أورده في باب الاستثناء، قال: بله فيه حرف جر كعدا وخلا بمعنى سوى. أورده أبو علي في إيضاح الشعر، وعقد ل بله باباً، قال: هذا باب ما يكون مرةً اسماً، ومرة مصدراً، ومرةً حرف جر. قال الشاعر: حمال أثقال أهل الود آونةً *** أعطيهم الجهد مني بله ما أسع قال أبو الحسن الأخفش في باب من الاستثناء: إن بله حرف جر. قال أبو علي: ووجه كونه حرفاً أنه يمكن أن يقال أنك إن حملته على أنه اسم فعل لم يجز، لأن الجمل التي تقع في الاستثناء مثل لا يكون زيداً، وليس عمراً وعدا خالداً، فيمن جعله فعلاً، ليس شيءٌ منه أمراً، وهذا يراد به الأمر، وهو اسمٌ للفعل، فإذا كان كذلك لم يجز، لأنه لا نظير له. فإن قلت: فلم لا تجعله المصدر، لأن المصدر قد وقع في الاستثناء في قولك: أتاني القوم ما عدا زيداً، والتقدير: مجاوزتهم زيداً، فهو مصدر. قلت: يمكن أن يقال إن ما زائدة وليست التي للمصدر، وعدا إذا قدرت زيادةً ما كان جملةً، فليس في ذلك دلالة، لاحتماله غير ذلك. والحروف قد وقعت في الاستثناء نحو: خل وحاشا، ولا وجه لهذه الكلم إلا أن تكون حروف جر، فإذا كان بله زيد هنا ليس يخلو من أن يكون اسم فعل ومصدر وحرفاً، وليس يجوز وقوع اسم فعل هنا لما قدمنا، ولا المصدر، لأنه لم يقع عليه دلالة من حيث جاز أن تكون ما زائدة في ما عدا كان حرف جرٍ؛ لأن حروف الجر قد وقعت في موضع الاستثناء. انتهى كلامه. وحاصله أنه استدل ل بله بكونه حرف استثناء بأن اسم الفعل لم يقع في الاستثناء، فكذلك لم يكن مصدراً، لأنه لا يكون مصدرٌ إلا حيث يكون اسم فعل. ثم اعترض نفسه بما عدا زيداً وبابه، فقال: يمكن أن تكون ما زائدة. قال أبو حيان في تذكرته: قلت كزنها مصدريةً أولى، وبه قال سيبويه والجماعة. وقد حكى أبو عبيدة وأبو الحسن النصب بعدها في الاستثناء. انتهى. ويريد أبو علي أنها ليست في النصب حرفاً، لأنها قد جرت، وليس في الاستثناء ما ينصب ويخفض إلا وهو متردد بين الحرفية والفعلية، ولا يكون نصبها كنصب إلا لهذا، ولأنها لا يقع بعدها المرفوع. كذلك قال أبو حيان. يريد أنها لم تخرج عن بابها وإن دخلها معنى الاستثناء. فالخفض على أنها مصدر، والنصب على أنها اسم فعل. وقال الدماميني في شرحه المزج على المغني: ذهب الكوفيون والبغداديون إلى أن بله ترد للاستثناء كغير. وجمهور البصريين على أنها لا يستثنى بها. واستدل ابن عصفور بأمرين: أحدهما أن ما بعد بله لا يكون من جنس ما قبلها. ألا ترى أن الأكف في البيت ليست من الجماجم. والثاني: أن الاستثناء عبارةٌ عن إخراج الثاني مما دخل في الأول، والمعنى في بله ليس كذلك. ألا ترى أن الأكف مقطوعة بالسيوف كالجماجم. وفيه نظر. أما الأول فلأنا لا نسلم أن كل استثناء يكون ما بعد الأداة فيه من جنس ما قبلها؛ بدليل المنقطع. وأما الثاني فلتحقق الإخراج باعتبار الأولوية. انتهى. وقد بسط القول أبو حيان في شرح التسهيل على هذه المسألة فلا بأس بإيراده هنا. قال: مذهب جمهور البصريين: لا يجوز فيما بعدها إلا الخفض. وأجاز الكوفيون والبغداديون فيه النصب على الاستثناء، نحو أكرمت العبيد بله الأحرار. وإنما جعلوها استثناء لأنهم رأوا ما بعدها خارجاً عما قبلها في الوصف، من حيث كان مرتباً عليه، لأن المعنى فيه: إن إكرامك الأحرار يزيد على إكرامك العبيد. والصحيح أنها ليست من أدوات الاستثناء، بدليل انتفاء وقوع إلا مكانها، وأن ما بعدها لا يكون إلا من جنس ما قبلها. ويجوز دخول حرف العطف عليها، ولم يتقدمها استثناء. قال شيخنا ابن الضائع: ومما يضعف إدخال بله ولا سيما في أدوات الاستثناء، أنهم لم يأتوا بحتى في الاستثناء. ألا ترى أن قولهم: قام القوم حتى زيد، قد أخرج زيدٌ عن القوم لصفةٍ اختص بها في القيام لم تثبت لهم، فلو كان هذا المعنى حقيقة في الاستثناء للزم. ولا تذكر حتى في أدوات الاستثناء. انتهى. وما ذهب إليه جمهور البصريين من أنه لا يجوز فيما بعدها النصب ليس بصحيح، بل النصب بعدها محفوظٌ من العرب. قال الشاعر: مشي الجواد فبله الجلة النجبا وقال جرير: وهل كنت يا ابن القين في الدهر مالك *** لغير بعيرٍ بله مهريةً نجبا وقال آخر: بله الأكف كأنها لم تخلق وقد روي الرفع أيضاً بعد بله على معنى كيف. ذكره قطرب وأنكره أبو علي. وفي مختصر العين: بله بمعنى كيف، وبمعنى دع. فأما الجر بعدها وهو المجمع على سماعه فذهب بعض الكوفيين إلى أنها بمعنى غير، فمعنى بله الأكف غير الأكف، فيكون هذا استثناءً منقطعاً. وذهب الفارسي إلى أنها مصدر لم ينطق له بفعل، وهو مضاف، وهي إضافةٌ من نصب. وذهب الأخفش إلى أنها حرف جر. وأما النصب فيكون على أنه مفعول، وبله مصدر موضوع موضع الفعل، واسم الفعل ليس من لفظ الفعل. فإذا قلت: قام القوم بله زيداً، فكأنك قلت: تركاً زيداً، ودع زيداً. وأما الرفع فعلى الابتداء وبله بمعنى كيف في موضع الخبر. وقال ابن عصفور: إذا قلت: قام القوم بله زيداً، إنما معناه عندنا دع زيداً، وليس المعنى إلا زيداً. ألا ترى أن معنى بله الأكف دع الأكف. فهذه صفتها، ولم يرد استثناء الأكف من الجماجم. قال شيخنا: هذا مناقضٌ لقوله: كأنها لم تخلق، فإنما يريد إذا كان فعلها في الجماجم كذا فالأكف أحرى بذلك، فكأنها لم تكن قط، فيقال أنها قطعتها. فلا بين معنى لاسيما وبله. انتهى. هذا ما أورده ابن حيان. وقول الشارح المحقق: ومنه بله ما أطلعتم، أي: من الاستثناء بجعله بله بمعنى سوى. وهو قطعة من حديث أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة في تفسير سورة السجدة، وهو: يقول الله تعالى: {أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر ذخراً بله ما أطلعتم عليه}. ثم قر: فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرة أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون . وأطلعتم ضبطه القسطلاني بضم الهمزة وكسر اللام. قال: ولأبي الوقت: أطلعتهم بفتح الهمزة واللام وزيادة هاء بعد التاء. وأخرجه مسلم أيضاً عن أبي هريرة في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها من صحيحه ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: {أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر ذخراً، بله ما أطلعتم عليه}، ثم قر: فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرة أعين انتهى. وفي رواية منه: بله ما أطلعتم الله عليه. فقول القسطلاني في شرح البخاري: إن هذا الحديث من أفراد البخاري سهو، مع أن ابن حجر قال: في فتح الباري: أخرج مسلمٌ الحديث كله عن أبي بكر بن أبي شيبة. قال النووي في شرح مسلم: بله معناها: دع عنك ما أطلعتكم عليه، فالذي لم أطلعكم عليه أعظم. فكأنه أضرب عنه استقلالاً له في جنب ما لم يطلع عليه. وقيل معناها غير، وقيل معناها كيف. وقال ابن الأثير في النهاية: بله اسم فعل بمعنى دع، وقد يوضع موضع المصدر ويضاف. وقوله: ما أطلعتم عليه، يحتمل أن يكون منصوب المحل ومجروره. انتهى. ورواه أبو حيان في تذكرته: بله ما قد أطلعتكم عليه، وقال: يريد فدع ما أطلعتكم عليه، وكيف ما أطلعتكم. وتقول العرب: إني لا أركب الخيل فكيف الحمير، يريد: فدع ذكر الحمير لا تذكره. ففي هذا القول دلالةٌ على موافقة كيف معنى دع في هذه الجهة. انتهى. ووقع في أكثر نسخ البخاري من بله ما اطلعتم عليه، بزيادة من. قال القسطلاني هي رواية أبي ذر وأبي الوقت والأصيلي وابن عساكر. قال ابن حجر: قال الصاغاني: اتفقت نسخ الصحيح على من بله، والصواب إسقاط كلمة من. وتعقب بأنه لا يتعين إسقاطها، إلا إذا فسرت بمعنى دع، وأما إذا فسرت بمعنى من أجل، ومن غير، وسوى فلا. وقد بينت في عدة مصنفاتٍ خارج الصحيح بإثبات من. وأخرجه سعيد بن منصور من طريق ابن مردويه أبي معاوية عن الأعمش كذلك. وقد فسر الخطابي الجار والمجرور بقوله: كأنه يقول: دع ما اطلعتم عليه فإنه سهل في جنب ما ادخر لهم. وهذا إنما هو لائقٌ بشرح بله بغير تقدم من عليها. وأما إذا تقدمت من عليها فقد قيل: هي بمعنى كيف، ويقال: أجل، ويقال بمعنى غير وسوى، وقيل بمعنى فضل. انتهى.قال ابن هشام في المغني: ومن الغريب أن في رواية البخاري من بلهٍ، قد استعملت معربةً مجرورة ب من، وخارجةً عن المعاني الثلاثة. وفسرها بعضهم بغير، وهو ظاهرٌ. وبهذا يتقوى من يعدها في ألفاظ الاستثناء. انتهى. وكذلك قال القسطلاني: قد ثبت جر بله بمن في الفرع المعتمد المقابل على أصل اليونيني، المحرر بحضرة إمام العربية أبي عبد الله بن مالك. قال الدماميني في شرح البخاري: وفي شروح المغني: نص ابن التين على أن بله ضبط بالفتح والجر، وكلاهما مع وجود من. فأما الجر فقد وجهه ابن هشام. وأما توجيه الفتح مع وجود من فقد قال الرضي: إذا كان بله بمعنى كيف، جاز أن تدخله من، وعليه تتخرج هذه الرواية، فتكون بمعنى كيف، التي يقصد بها الاستبعاد. وما مصدرية، وهي مع صلتها في محل رفع على الابتداء والخبر من بله، والضمير من عليه عائد على الذخر، أي: كيف ومن أين اطلاعكم على الذخر الذي أعددته، فإنه أمرٌ قلما تتسع العقول لإدراكه والإحاطة به. انتهى. ومثله لابن حجر قال: ووقع في المغني لابن هشام أن بله استعملت معربة مجرورة ب من، وأنها بمعنى غير، ولم يذكر سواه. وفيه نظر لأن ابن التين حكى رواية من بله بفتح الهاء مع وجود من، فعلى هذا فهي مبنية، وما مصدرية، وهي وصلتها في موضع رفع على الإبتداء، والخبر هو الجار والمجرور المتقدم، ويكون المراد ب بله كيف التي يقصد بها الاستبعاد. والمعنى: من أين اطلاعكم على هذا القدر الذي تقصر عقول البشر عن الإحاطة به. ودخول من على بله إذا كانت بهذا المعنى جائز، كما أشار إليه الشريف في شرح الحاجبية. وأوضح التوجيهات لخصوص سياق حديث الباب أنها بمعنى غير. وذلك بين لما تأمله. انتهى. وهذا الاتفاق من الدماميني وابن حجر غريبٌ، يقل وقوع مثله، فإنهما وإن كانا متصاحبين لم ير كلٌّ منهما شرح الآخر على البخاري. أقول: كسرة بله يحتمل أن تكون كسرة بناء، ويؤيده ما قاله أبو حيان في الارتشاف بأنه سمع في بله فتح الهاء وكسرها. والبيت الشاهد من قصيدةٍ لأبي زبيد الطائي النصراني. وقبله، وهو مطلع القصيدة:لفتح والجر، وكلاهما مع وجود من. فأما الجر فقد وجهه ابن هشام. وأما توجيه الفتح مع وجود من فقد قال الرضي: إذا كان بله بمعنى كيف، جاز أن تدخله من، وعليه تتخرج هذه الرواية، فتكون بمعنى كيف، التي يقصد بها الاستبعاد. وما مصدرية، وهي مع صلتها في محل رفع على الابتداء والخبر من بله، والضمير من عليه عائد على الذخر، أي: كيف ومن أين اطلاعكم على الذخر الذي أعددته، فإنه أمرٌ قلما تتسع العقول لإدراكه والإحاطة به. انتهى. ومثله لابن حجر قال: ووقع في المغني لابن هشام أن بله استعملت معربة مجرورة ب من، وأنها بمعنى غير، ولم يذكر سواه. وفيه نظر لأن ابن التين حكى رواية من بله بفتح الهاء مع وجود من، فعلى هذا فهي مبنية، وما مصدرية، وهي وصلتها في موضع رفع على الإبتداء، والخبر هو الجار والمجرور المتقدم، ويكون المراد ب بله كيف التي يقصد بها الاستبعاد. والمعنى: من أين اطلاعكم على هذا القدر الذي تقصر عقول البشر عن الإحاطة به. ودخول من على بله إذا كانت بهذا المعنى جائز، كما أشار إليه الشريف في شرح الحاجبية. وأوضح التوجيهات لخصوص سياق حديث الباب أنها بمعنى غير. وذلك بين لما تأمله. انتهى. وهذا الاتفاق من الدماميني وابن حجر غريبٌ، يقل وقوع مثله، فإنهما وإن كانا متصاحبين لم ير كلٌّ منهما شرح الآخر على البخاري. أقول: كسرة بله يحتمل أن تكون كسرة بناء، ويؤيده ما قاله أبو حيان في الارتشاف بأنه سمع في بله فتح الهاء وكسرها. والبيت الشاهد من قصيدةٍ لأبي زبيد الطائي النصراني. وقبله، وهو مطلع القصيدة: من مبلغٌ قومنا النائين إذ شحطو *** أن الفؤاد إليهم شيقٌ ولع حمال أثقال أهل الود آونةً *** أعطيهم الجهد مني بله ما أسع من استفهامية، ومبلغٌ متعدٍّ إلى مفعولين، يقال: أبلغته السلام، فقومنا مفعوله الأول، والنائين: جمع ناء اسم فاعل من النأي، وهو البعد. وإذ ظرفٌ معناه التعليل متعلق بمبلغ. وشحطوا بفتح الحاء، يقال: شحط يشحط شحطاً، من باب منع وشحوطاً، وهو البعد. وشيق: مشتاق، وأصله شيوق بوزن فيعل. وولع، بكسر اللام: وصفٌ من ولع بفتح اللام وكسرها يلع بفتحها مع سقوط الواو، ولعاً بسكون اللام وفتحها، بمعنى علق به، من علاقة الحب. كذا في المصباح. وحمال: مبالغة حامل خبر لمحذوف، أي: هو حمال. وأثقال: جمع ثقل بفتحتين، وهو متاع المسافر. وآونة: جمع أوان بمعنى الحين، كأزمنة وزمان وهو ظرف لحمال، أي: حملته في أزمانٍ كثيرة. وضمير أعطيهم لأهل الود، وجمعه باعتبار معناه. والجهد، بالفتح: النهاية والغاية، وهو مصدر جهد في الأمر جهداً من باب نفع، إذا طلب حتى بلغ غايته في الطلب. ومنه اجتهد في الأمر، أي: بذل وسعه وطاقته في طلبه ليبلغ مجهوده، ويصل إلى نهايته. والجهد أيضاً: الوسع والطاقة، يفتح في لغة الحجاز، ويضم في غيره. وأسع: مضارع وسع، يتعدى ولا يتعدى. يقال: وسع المكان القوم، ووسع المكان، أي: اتسع. قال النابغة: تسع البلاد إذا أتيتك زائر *** وإذا هجرتك ضاق عني مقعدي والسعة والوسع: الطاقة، والجدة أيضا. والفعل وسع بكسر السين يسع بفتحها، وأصل الفتحة الكسرة، ولهذا أسقطت الواو لوقوعها بين ياء مفتوحة وكسرة ثم فتحت بعد الحذف لمكان حرف الحلق.فأسع إن كان متعدياً فما موصولة، وموصوفة والعائد محذوف، أي: أسعه. وإن كان لازماً بمعنى اتسع فما مصدرية. فالجهد إن كان بالمعنى الأول فالوسع بالمعنى الثاني، وبالعكس لئلا يتكرر. وظهر من هذا التقدير أن الاستثناء لا مساس له هنا، وإنما المعنى على أحد الأوجه الثلاثة في البيت السابق. فالأول أني أعطيهم فوق الوسع، فتركاً للوسع، وفدع الوسع، أي: ذكره، وفكيف الوسع لا أعطيه، فتأمل. وأنشد بعده: وقفنا فقلنا إيه عن أم سالمٍ تقدم شرحه قبل بيتين منه. وأنشد بعده: مهلاً فداءٍ لك الأقوام كلهم *** وما أثمر من مالٍ ومن ولد وهذا أيضاً تقدم شرحه في أول الباب. وأنشد بعده: الشاهد الثامن والخمسون بعد الأربعمائة ألا حييا ليلى وقولا لها هل *** فقد ركبت أمراً أغر محجلا على أن هلا فيه اسم فعل بمعنى أسرعي. المعروف أنها زجرٌ للدابة لتذهب، فتكون من أسماء الصوت كما فسره هو بهذا في باب الصوت. قال صاحب الصحاح: هلا: زجرٌ للخيل، أي: توسعي وتنحي. قال: وأي جوادٍ لا يقال له هلا وللناقة أيضاً، وقال: حتى حدوناها بهيدٍ وهلا وهما زجران للناقة، وقد تسكن بها الإناث عند دنو الفحل منها. قال: ألا حييا ليلى وقولا لها هلا انتهى. فقد عكس الشارح كما ترى، ففسرها بأسرعي، دون اسكني. وقال ابن الأثير في النهاية في شرح حيهلا من حديث ابن مسعود: إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر، قال: أي: أقبل به، وأسرع، وهي كلمتان جعلتا كلمة واحدة، فحي بمعنى أقبل، وهلا: بمعنى اسكن عند ذكره حتى تنقصي فضائله. انتهى. فهلا من حيهلا، إما بمعنى أسرع، وإما بمعنى اسكن؛ لأنها تأتي للمعنيين كما قال الشارح. وكأنه رحمه الله أخذ كلامه من هنا لكنه لم ينعم النظر. وأورده الزمخشري في مفصله، قال: ويستعمل حي وحده بمعنى أقبل، وهلا وحده. وأنشد البيت. والبيت أول أبياتٍ للنابغة الجعدي الصحابي هجا بها ليلى الأخيلية. وبعده: ذري عنك تهجاء الرجال وأقبلي *** إلى أذلقيٍّ يملأ استك فيشلا بريذينةٌ بل البراذين ثفره *** وقد شربت في أول الصيف أيلا وقد أكلت بقلاً وخيماً نباته *** وقد نكحت شر الأخايل أخيلا وكيف أهاجي شاعراً رمحه استه *** خضيب البنان لا يزال مكحلا وقوله: ألا حييا، أي: ابلغاها تحيتي، على طريق الهزء والسخرية. وروي: ألا أبلغا، أمر مخاطبين بالتبليغ وواحداً، إما بتقدير الألف مبدلة من نون التوكيد الخفيفة. وإما من قبيل خطاب الرجل صاحبه بخطاب الاثنين على عادتهم. وهلا هو المحكي بالقول. وقوله: فقد ركبت إلخ، أراد أنها ركبت بسبب التعرض لي أمراً واضحاً ظاهراً لا يخفى. وهذا يقال في كل شيء ظاهرٍ عرف كما يعرف الفرس الأغر المحجل. ومنه قول الشاعر: وأيامنا معروفةٌ في عدون *** لها غررٌ معروفةٌ وحجول وروي: لقد ركبت أيراً بالمثناة التحتية بدل الميم، وهو تحريف من الكتاب. وقوله: ذري عنك إلخ، ذري: اتركي. وتهجاء، بالفتح: مصدر لمبالغة الهجاء. وأذلقي، أي: أير أذلقي. والأذلق: السنان المسنون المحدد. قال صاحب العباب: ذلق السنان بالكسر يذلق ذلقاً، أي: صار حديداً، فهو ذلق؛ وأسنةٌ ذلق. وقال العيني: أذلقي، أي: رجلٌ فصيح متقن. وهذا لا مناسبة له هنا. ومثله لبعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل، وتبعه الكرماني في شرح أبيات الموشح، قالا: أذلقيٌّ، أي: فصيح، يقال: فلانٌ ذلق اللسان، أي: طليقه. والأذلقي مبالغة. انتهى. وروي: أذلغي بدل أذلقي بذال وغين معجمتين بينهما لام. قال صاحب العباب: وقال للذكر أذلغ وأذلغيٌّ، ومذلغ بكسر الميم. والأذلغي: منسوب إلى بني أذلغ: قومٌ من بني عامر، يوصفون بالنكاح. قال ابن الكلبي: الأذلغ هو عوف بن ربيعة بن عبادة، وأمه من ثمالة. وقال الأزهري: الذكر يسمى أذلغ إذا اتمهل فصارت تومته مثل الشفة المنقلبة. ويقال: رجل أذلغ، إذا كان غليظ الشفتين. وذلغ جاريته، إذا جامعها. انتهى. والفيشل، بفتح الفاء: رأس الذكر، ومثله الفيشلة. كذا في العباب. وقال العيني: الفيشل: الذكر العظيم الكمرة. ولم أره بهذا المعنى. وقوله: برذينة حك البراذين إلخ، مصغر البروذنة. قال المطرزي: البرذون: التركي من الخيل، وهو خلاف العراب. وقال ابن الأنباري: البرذون يقع على الذكر والأنثى، وربما قالوا في الأنثى بروذنة، كذا في المصباح. والثفر بفتح المثلثة وسكون الفاء. قال صاحب المصباح: الثفر، مثل فلسٍ للسباع،وكل ذي مخلب منزلة الفرج والحيا للناقة. وربما استعير لغيرها. وقوله: وقد شربت من آخر إلخ، الأيل، بضم الهمزة وتشديد الياء المفتوحة: جمع آيل، كقارح وقرح، والآيل: اللبن الخاثر. وقيل اسم جمع له، يقال: آل اللبن يؤول أولاً، إذا خثر. وأراد ألبانا أيلاً، فحذف الموصوف. وقيل: هو أيل بفتح الهمزة كسرها وتشديد الياء المكسورة، وهو الذكر من الأوعال. والأنثى أيلة وأروية. والأيل هو ذو القرن الأشعب مثل الثور الأهلي وإنما سمي أيلاً لأنه يؤول إلى الجبال يتحصن فيها. قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب: أراد لبن أيل، فحذف المضاف وخصه دون غيره لأنه يهيج الغلمة. وقال صاحب العباب: قال شمر: هو لبن الأيايل. قال أبو الهيثم: هذا محالٌ، ومن أين يوجد ألبان الأيايل. وقال أبو نصر: هو البول الخاثر من أبوال الأروى، إذا شربته المرأة اغتلمت. وهو يغلم، أي: يقوي على النكاح. وقوله: إذا أكلت بقلاً وخيماً إلخ، الوخيم: الثقيل. ونكحت: تزوجت، من باب ضرب. والأخايل: جمع أخيل، قال صاحب العباب: بنو الأخيل: حيٌّ من بني عقيل رهط ليلى الأخيلية. وقولها: نحن الأخايل ما يزال غلامن *** حتى يدب على العصا مذكورا وإنما جمعت القبيلة باسم الأخيل بن معاوية العقيلي. انتهى. أراد أنها تزوجت بأشر بني أخيل. وأخيل: صفة لشر، لتأويله بمشؤوم فإن الأخيل هو الشقراق، والعرب تتشاءم به. وقوله: وكيف أهاجي شاعراً إلخ، أي: كيف أهاجي امرأةً بهذه الصفات. والاستفهام إنكاريٌَ. أي: لا أهجو؛ استنكافاً ممن بهذه الصفة. وسبب هجو النابغة لليلى أنه كان يهاجي زوجها سوار بن أوفى القشيري، فاعترضت ليلى بينهما، فهجت النابغة بشعر، فهجاها بهذا الشعر، فهجته بقصيدةٍ منها هذه الأبيات: أنابغ لم تنبغ ولم تك أول *** وكنت صنياً بين صدين مجهلا أنابغ إن تنبغ بلؤمك لا تجد *** للؤمك إلا وسط جعدة مجعلا أعيرتني داءً بأمك مثله *** وأي حصان لا يقال لها: هلا تساور سواراً إلى المجد والعل *** وفي ذمتي لئن فعلت ليفعلا فغلبته، ولهذا صار النابغة معدوداً من المغلبين. هذه هو الصحيح في الرواية كما في الأغاني وفي شرح شواهد إصلاح المنطق، لا العكس، كما قاله ابن هشام في شرح الشواهد، وتبعه العيني وغيره. ثم إنها وفدت إلى الحجاج بن يوسف فأعطاها ما سألت، ثم قال لها: ألك حاجة بعد هذا؟ قالت: نعم، تدفع إلي النابغة الجعدي. قال: قد فعلت. فلما بلغ النابغة فعل الحجاج به خرج هارباً إلى عبد الملك بن مروان عائذاً به، فاتبعته إلى الشام، فهرب إلى قتيبة بن مسلم بخراسان، فاتبعته بكتاب الحجاج إليه، فماتت بقومس. وقال ابن قتيبة: بساوة، وقبرت هناك. وقولها: أنابغ إلخ، الهمزة للنداء. ونابغ: مرخم نابغة، وهو لقبٌ والهاء للمبالغة. يقال: نبغ الرجل، إذا لم يكن في إرث الشعر، ثم قال وأجاد، ومنه سمي الشعراء من النوابغ، وهم ثمانية. واسم الجعدي قيس بن عبد الله. وقد تقدمت ترجمته في الشاهد السادس والثمانين بعد المائة. ونبغ ينبغ بفتح الباء في الماضي، وبتثليثها في المضارع، إذا ظهر وعلا. وقولها: ولم تك أولا، أي: لم تكن أول من قال شعراً، وليس لك قدمٌ فيه. والصني: مصغر صنو بكسر الصاد المهملة وسكون النون، وهو حسيٌ صغير لا يرده أحد ولا يؤبه له، يقال: هو شقٌ في الجبل. كذا في الصحاح. وقال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكتاب: الصني: شعب ضيق بين الجبال، وقيل: هو الرماد، وقيل: هو الشيء الحقير الذي لا يلتفت إليه. والحسي بكسر الحاء وسكون السين المهملتين، وهو الماء المتواري في الرمل. قال ابن السيرافي في شرح أبيات إصلاح المنطق: لم تنبغ: لم تعل ولم تذكر. والصني: الحسي الصغير، تريد أنه بمنزلة الحسي، كهذا الماء الذي بين جبلين لا يريده أحد. وجهلاً نعت لصني. والصد، بضم الصاد وفتحها، ويقال: سد بالسين كذلك، هو الجبل. والمجعل: مصدرٌ ميمي. بمعنى الجعل، أي: لم تجد من يجعلك شريفاً إلا قومك. وقولها: أعيرتني داءً، أي: أنسبتني إلى العار، وهو كل شيء يلزم منه عيبٌ وسبة، يتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه كما هنا. وبالباء أيضاً. قال المرزوقي في شرح الحماسة: المختار أن يتعدى بنفسه. والحصان، بالفتح: المرأة العفيفة. وروي بدله: وأي جواد، وهو الفرس الجيدة. وقولها: تساور سواراً إلخ، تساور: تواثب وتغالب. وسوار قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء: هو سوار بن أوفى القشيري. وكان زوجها. وصحفه بعضهم ورواه: تسور سوار، والصواب ما رويناه. وهذا البيت أورده سيبويه في كتابه على الألف في ليفعلا أصلها نون التوكيد الخفيفة قلبت ألفاً. واللام في لئن موطئة القسم، واللام الثانية في جواب القسم المقدر، وجملة: يفعلا جواب القسم، وجواب الشرط محذوف وجوباً، وفي ذمتي خبر مبتدأ محذوف، أي: في ذمتي القيام بما أدعيه لسوار من أن يغلبك، والله لئن فعلت ليفعلن، أي: لئن واثبته ليواثبنك ويغلبنك. وقال أبو علي في إيضاح الشعر قوله: وفي ذمتي قسم، وجوابه ليفعلن. فإن قلت: إن في قوله: وفي ذمتي، ليس بكلام مستقل، والقسم إنما هو جملة. قلت: أنه أضمر في الظرف اليمين والقسم، لدلالة الحال عليه، كما أضمر قي قوله سبحانه: ثم بدا لهم الفاعل، وصار ليسجننه كالجواب، لأن بدا بمنزلة علم، وذاك أنه علمٌ. ومن لم يرفع بالظرف فينبغي أن يكون المبتدأ عنده محذوفاً. ويبين ذلك قولهم: علي عهد الله لأفعلن. انتهى. المبتدأ وجوباً إذا كان خبره صريحاً في القسم، كقولهم: في ذمتي لأفعلن، أي: في ذمتي يمين. وأنشد هذا البيت. وإنما عده صريحاً لأنه اشتهر استعماله في القسم، وبه يسقط قول من قال كما نقله العيني: يحتمل أن يكون: في ذمتي دينٌ وعهدٌ، فلا يفهم القسم إلا بذكر المقسم به. وأنشد بعده: قدني من نصر الخبيبين قدي وقد تقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الثالث بعد الأربعمائة. وأنشد بعده: الشاهد التاسع والخمسون بعد الأربعمائة ومتى أهلك فلا أحفله *** بجلي الآن من العيش بجل على أن بجل كان في الأصل مصدراً بمعنى الاكتفاء، ثم صار اسم فعل بمعنى الأمر، فإن اتصل به الكاف كان معناه اكتف، أمر مخاطب حاضر. وإن اتصل به الياء كان معناه لأكتف، أمر متكلم نفسه، كما أن قد وقط كذلك. ففيه ضمير مستتر وجوباً تقديره في الأول: أنت، وفي الثاني أنا. ومثله في المفصل للزمخشري: أن قدك وقطك بمعنى اكتف وانته. ولم يذكر معهما بجل. وكونها موضوعةً لهذا المعنى هو المتبادر الظاهر من موارد استعمالها، والمطرد في كل موضع أتت فيه. وذهب ابن مالك في التسهيل إلى أن الثلاثة موضوعةٌ لأكتفي فعلاً مضارعاً للمتكلم. وهو قريبٌ مما قالاه. وقال أبو حيان في الارتشاف: وأما بجل فقد ذكروا أنها اسم فعل والياء في موضع نصب بمعنى كفاني، ويكفيني. وإذا لم تلحق فهي بمعنى حسب. واقتصر المرادي في الجنى الداني وابن هشام في المغني وغيرهما على أنها موضوع ليكفي فعلاً مضارعاَ غائباً. وهذا يحتاج إلى فاعل ظاهر. ولا يتيسر فيه بجلي الآن، ولا في قول طرفة بن العبد. وقد أورده ابن هشام في المغني: ألا بجلي من الشراب ألا بجل لعدم وجوده. ولما رأوا أن لا فاعل، اضطروا إلى جعل بجل في البيتين بمعنى حسب، وأثبتوا معنًى ثانياً لها. ولا ضرورة تدعو إليه، ولهذا لم يذكر الشارح المحقق معنى حسب أصلاً، حسماً للانتشار من غير فائدة. فإن قلت: إن علماء اللغة المتقدمين كالأزهري، وابن دريد، والجوهري وغيرهم، إنما قالوا: بجل بمعنى حسب، ولم يتعرضوا لمجيئها اسم فعل فما وجهه؟ قلت: هو راجعٌ إليه، وإنما عبروا بحسب لقرب المعنى تيسيراً للفهم. وهم يتساهلون في تفسير بعض الألفاظ. ولما كان غرض النحويين متعلقاً بأحكام الألفاظ، دققوا النظر فبينوا حقيقتها، وفسروها بالفعل وسموها اسم فعل. ولا يصح أن تكون موضوعةً بمعنى حسب، لأن كلاًّ منهما لا يستعمل استعمال الآخر. أما حسب فإنها اسمٌ معرب متصرف، يقع مبتدأ وخبراً وحالاً ومجروراً، ويدخل عليها العوامل اللفظية. وبجل إلى خلاف هذا، وإثبات هذه الأمور لها دونه خرط القتاد. وأما بجل فإن نون الوقاية تلحقها، وحسب لا تلحقها، ولا في الندرة. وقد أخذ ابن مالك بظاهر كلام أهل اللغة، فأثبت مجيء بجل بمعنى حسب. وحسب ليست اسم فعل لدخول العوامل عليها، ولم يصب من عدها من أسماء الأفعال، كالقواس في شرح ألفية ابن معطي، ولا يجب لحاق نون الوقاية لبجل مع الياء، بل يجوز بمرجوحية. قال الشارح المحقق هنا: وتجب نون الوقاية في قد وقط دون بجل في الأعراف، لكونهما على حرفين دونه. وقال في باب المضمر: وكذا الحذف في بجل أولى من الإثبات وإن كان ساكن الآخر مثل قد وقط، لكراهة لام ساكنة قبل النون، وتعسر النطق بها. ومثله لابن هشام في المغني: أن لحاق النون لبجل إذا كان اسم فعل نادر. وكذا حال جميع أسماء الأفعال، يجوز إلحاق نون الوقاية وتركها. قال الشارح المحقق في باب المضمر: يجوز إلحاق نون الوقاية في أسماء الأفعال لأدائها معنى الفعل، ويجوز تركها أيضاً لأنها ليست أفعالاً في الأصل. حكى يونس: عليكني، وحكى الفراء: مكانكني. انتهى. وكذا قال الشاطبي في شرح الألفية: حكى سيبويه في أسماء الأفعال عليكني وعليكي. بل ينبغي أن يكون إلحاق النون لاسم الفعل كالفعل من كل وجه، فكما تقول تراكها: تقول تراكني، وفي رويد: رويدني، وفي هلم الحجازية: هلمني. وكذلك سائر أسماء الأفعال المتعدية. وقد نص ابن مالك في شرح التسهيل على جواز إلحاق النون في اسم الفعل مطلقاً.انتهى. وزعم ابن هشام في شرح الألفية وفي الجامع الصغير وغيرهما أن لحاقها لاسم الفعل واجب. وحينئذٍ يرد عليه ما استشكله الدماميني في شرح المغني قال: هذا مشكل، لأنها حيث تكون اسم فعل بمعنى يكفي فالنون واجبة لا نادرة. نعم إذا كانت بمعنى حسب جاز الأمران، إلا أن ترك النون أعرف من إثباتها؛ فندور: بجلني - بالنون - إنما هو إذا كانت بمعنى حسب لا بمعنى يكفي. هذا كلامه. وتابعه عليه الشمني وناقشه بشيء لا طائل تحته. وقد لفق بين كلاميهما ابن الملا على عادته، ولم يأت بشيء. وقول الشارح المحقق: إلا أن الضمير قد يحذف من بجل بخلاف قد وقط، يعني قد تستعمل مجردة من إلحاق ضمير المتكلم والمخاطب كما في البيت، فإن بجل الثانية تأكيد للأولى، وليس معها ضميرٌ كالأولى. والمعنى عليه. ومثله قول طرفة: ألا بجلي من الشراب ألا بجل وكذلك قول بعض أهل البصرة في يوم الجمل: ردوا علينا شيخنا ثم بجل يريد: ثم بجلكم، أي: كفوا وانتهوا. وزعم العيني أن بجل الثانية حرفُ بمعنى نعم، ومع هذا فهي تأكيد لبجل الأولى. وفيه أن الحرف لا يؤكد الاسم، لتغايرهما بالنوعية. وقول الشاعر: ومتى أهلك إلخ، متى: جازمة. وأهلك شرط، ولهذا جزم. وجملة: لا أحفله في محل جزم جواب الشرط. وهلك الشيء من باب ضرب، وكذلك حفل من باب ضرب. قال صاحب العباب: وحفلت كذا، أي: باليت به. ويتعدى بالباء أيضاً، وهو الكثير. يقال: حفلت بفلان، إذا قمت بأمره، ولا تحفل بأمره، أي: لا تبال به، ولا تهتم به. واحتفلت به: اهتممت به. وضمير أحفله راجعٌ إلى الهلاك المفهوم من أهلك. وهذا البيت من قصيدةٍ للبيد بن ربيعة الصحابي، ذكر فيها أيامه ومشاهده وما جرى له عند النعمان بن المنذر ملك الحيرة، والتأسف على موته. إلى أن قال: فمتى أهلك فلا أحفله البيت وبعده: من حياةٍ قد سئمنا طوله *** وجديرٌ طول عيشٍ أن يمل ثم رثى أخاه لأمه أربد، لموته بصاعقةٍ نزلت به بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان جاء مع عامر بن الطفيل، قاتلهما الله للغدر بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وهذه القصيدة قالها قبل إسلامه. وتقدم شرح أبياتٍ منها في الشاهد الثامن والعشرين بعد المائتين. وترجمته تقدمت أيضاً في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة. وقوله: من حياة بدل من قوله: من العيش في البيت السابق. وأنشد بعده الشاهد الستون بعد الأربعمائة أنشأت أسأله ما بال رفقته *** حي الحمول فإن الركب قد ذهبا على أن حي جاء متعدياً بمعنى: ائت الحمول، جمع حمل بالكسر. وهذه رواية الجوهري في الصحاح، وكذا رواه خطاب بن يوسف في كتاب الترشيح وقال: أخذ يسأل غلامه: ما بال الرفقة؟ وأين أخذت؟ ثم قال له: حي الحمول يا غلام، أي: ائتها وحثها. انتهى. نقله عنه أبو حيان في التذكرة. وقد روى البيت أبو علي في كتاب إيضاح الشعر والسهيلي في الروض الأنف هكذا: أنشأت أسأله عن حال رفقته *** فقال: حي فإن الركب قد ذهبا وعليه فليس بمتعد. ورواه الأخفش أبو الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي في كتاب المعاياة: وقلت أسأله عن حال رفقته *** فقال: حي فإن الركب قد ذهبا وقال: أراد بقوله: حيهل، فنقصه. والرفقة بضم أولها وتكسر. وجعل الركب بمنزلة الواحد. اه. أي: بالنظر إلى قوله ذهب الإفراد، ولو كان راعى معناه، لقال: ذهبوا. وقال ابن أبي الربيع: حي تستعمل مركبة وغير مركبة. فإن كانت غير مركبة كانت بمنزلة أقبل، فتتعدى بعلى، وإذا كانت مركبة كانت متعدية بمنزلة ائت. انتهى. وقوله: أنشأت، أي: شرعت أسأل غلامي كيف أخذ الركب. والبال: الحال والشأن. والرفقة، قال صاحب المصباح: هي الجماعة ترافقهم في سفرك، فإذا تفرقتم زال اسم الرفقة. وهي بضم الراء في لغة تميم، والجمع رفاق، مثل برمة وبرام، وبكسرها في لغة قيس، والجمع رفقة مثل سدرة وسدر. وقوله: حي الحمول مقول لقول محذوف، أي: فقال: حي الحمول، وهو مصرح به في رواية غير الجوهري. قال صاحب المصباح: وراكب الدابة جمعه ركب، مثل صاحب وصحب، وركبان. انتهى. وقال ابن قتيبة في أدب الكاتب: الركب: أصحاب الإبل، وهم العشرة ونحو ذلك. قال ابن السيد في الاقتضاب: هذا الذي قاله ابن قتيبة قاله غير واحد. وحكى يعقوب، عن عمارة بن عقيل قال: لا أقول راكب إلا لراكب البعير خاصة، وأقول لغيره قارسٌ وبغال وحمار. ويقوي هذا الذي قاله قول قريط العنبري: فليت لي بهم قوماً إذا ركبو *** شنوا الإغارة فرساناً وركبانا والقياس يوجب أن هذا غلط، والسماع يعضد ذلك. ولو قالوا إن هذا هو الأكثر في الاستعمال لكان لقولهم وجه. وأما القطع على أنه لا يقال راكب ولا ركب إلا لأصحاب الإبل خاصة فغير صحيح، لأنه لا خلاف بين اللغويين في أنه قال: ركبت الفرس، وركبت البغل، وركبت الحمار. واسم الفاعل من ذلك راكب، وإذا كثرت الفعل قلت: ركاب وركوب. وقد قال الله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوه} فأوقع الركوب على الجميع. وقال امرئ القيس: إذا ركبوا الخيل واستلأمو *** تحرقت الأرض واليوم قر وقال زيد الخيل الطائي: وتركب يوم الروع فيها فوارسٌ *** بصيرون في طعن الأباهر والكلى وهذا كثير في الشعر وغيره. وقد قال الله تعالى: {فرجال وركبان}. وهذا اللفظ لا يدل على تخصيص شيء بشيء، بل اقترانه بقوله فرجالاً يدل على أنه يقع على كل ما يقل على الأرض. ونحوه قول الراجز: بنيته بعصبةٍ من مالي *** أخشى ركيب ورجيلاً عاديا فجعل الركب ضد الرجل، وضد الرجل يدخل فيه راكب الفرس وراكب الحمار وغيرهما. وقول ابن قتيبة أيضاً: إن الركب العشرة ونحو ذلك، غلطٌ آخر، لأن الله تعالى قال: والركب أسفل منكم يعني مشركي قريش يوم بدر، وكانوا تسعمائة وبضعة وخمسين. والذي قاله يعقوب في الركب هم العشرة فما فوقها. وهذا صحيحٌ، وأظن أن ابن قتيبة أراد ذلك فغلط في النقل. انتهى. وقبل البيت الشاهد: تعدو بنا شطر جمعٍ وهي عاقدةٌ *** قد قارب العقد من إيفادها الحقبا وتعدو، أي: الناقة، من العدو، وهو ما قارب الهرولة، وهو دون الجري. وبنا، أي: بي وبغلامي؛ فإنه كان زميلي على الناقة. والشطر هنا بمعنى الجهة. وجمع: اسم المزدلفة. وسميت به إما لأن الناس يجتمعون بها، وإما لأن آدم اجتمع هناك بحواء. والعاقدة: الناقة التي قد أقرت باللقاح، لأنها تعقد بذنبها فيعلم أنها حملت. وقيل: العاقدة: التي تضع عنقها على عجزها. والإيفاد: الإسراع، مصدر أوفد بالفاء، أي: أسرع. والحقب، بفتح المهملة والقاف: حبل يشد به الرحل إلى بطن البعير مما يلي ثيله، أي: ذكره، كي لا يجتذبه التصدير. تقول منه: أحقبت البعير. وروي أيضاً: تعدو بنا شطر جمعٍ وهي موفدةٌ *** قد قارب الغرض من إيفادها الحقبا وموفدة: اسم فاعل بمعنى مسرعة، من الإيفاد المذكور. والغرض، بفتح الغين المعجمة وسكون الراء المهملة بعدها ضاد معجمة، ويقال له: غرضة بالضم، وهو التصدير، وهو للرجل بمنزلة الحزام للسرج، والبطان للقتب. يقول: قد لوت عنقها وعسرت بذنبها، وتخامصت ببطنها، فقري كل واحد من الغرض والحقب، من صاحبه، وذلك من شدة السير. والبيتان من قصيدة لابن أحمر. كذا أورد البيتين السهيلي في الروض الأنف: قال الحافظ مغلطاي في حاشيته عليه: وفيه نظر، من حيث أن الذي في ديوان ابن أحمر أن ذلك البيت بعد قوله: قالوا: عيينا فابدري وقد زعمو *** أن قد مضى منهم ركبٌ فقد نصبا إما الجبال وإما ذو المجاز و*** ما في منًى سوف تلقى منهم سببا وافيت لمل أتاني أنها نزلت *** إن المنازل مما يجمع العجبا ثم ارتمينا بقولٍ بيننا دولٍ *** بين الهباءين لا جداً ولا لعباً في طمية الناس لم يشعر بنا أحدٌ *** لما اغتنمنا جبال الليل والصخبا حتى أتيت غلامي وهو ممسكه *** يدعو يساراً وقد جرعته غضبا أنشأت أسأله ما بال رفقته ***.............البيت انتهى. وهو شاعرٌ إسلاميٌّ في الدولة الأموية. وهجا يزيد بن معاوية، فأراد يزيد أن يأخذه، ففر منه، ولم يقدر عليه. قال الجواليقي في شرح أدب الكتاب: هو عمرو بن أحمر من باهلة، وهو أحد عوران قيس، وهو خمسة شعراء: تميم بن أبي بن مقبل، والراعي، والشماخ، وابن أحمر، وحميد بن ثور. وقال ابن الشجري في أماليه: هو عمرو بن أحمر بن العمرد بن عامر بن عبد شمس بن معن بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر. وكان من شعراء الجاهلية وأدرك الإسلام. وأورد الآمدي في المؤتلف والمختلف من يقال له ابن أحمر أربعة، وقال: منهم عمرو بن أحمر الباهلي. قال ابن حبيب: هو عمرو بن أحمر بن العمرد بن عامر بن عبد شمس بن عبد بن قدام بن فراص بن معن، الشاعر الفصيح، كان يتقدم شعراء أهل زمانه. وقد ذكرت حاله وأشعاره مع الشعراء المشهورين. انتهى. وأورده ابن حجر في قسم المخضرمين من الإصابة وقال: قال المرزباني: هو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام فأسلم، وغزا مغازي في الروم، وأصيب بإحدى عينيه هناك، ونزل الشام وتوفي على عهد عثمان بعد أن بلغ سناً عالية. وقال أبو الفرج: كان من شعراء الجاهلية المعدودين، ثم أسلم وقال في الجاهلية والإسلام شعراً كثيراً، ومدح الخلفاء الذين أدركهم، ولم يلق أبا بكر، ومدح عمر فمن دونه إلى عبد الملك بن مروان. وهذا يخالف قول المرزباني: إنه في عهد عثمان. وأنشد بعده: الشاهد الحادي والستون بعد الأربعمائة يتمارى في الذي قلت له *** ولقد يسمع قولي حيهل على أن لبيداً سكن اللام للقافية، فلا يجوز تسكين اللام في غير الوقف. تبع الشارح المحقق في هذا صاحب الصحاح، فإنه قال: وأما حي هلا، بلا تنوين فإما تجوز في الوقف، وأما في الإدراج فإنها لغة رديئة. وأما قول لبيد يذكر صاحباً له في السفر، كان أمره بالرحيل: يتمارى في الذي قلت له ***..............البيت فإنما سكنه للقافية. وأصله من كتاب الأصول لابن السراج قال: وأما حيهل فإذا وقفت فإن شئت، قلت: حيهل بالسكون، وإن شئت، قلت: حيهلا، تقف على الألف كما وقفت في أنا. انتهى. وتبعه أبو علي في إيضاح الشعر، وسيأتي كلامه. والصحيح أن تسكين اللام لغةٌ سواء كان في الوقف، أم في الدرج. قال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات: حيهل وحيهلا وحي على، يقال في الاستسراع والاستحثاث. وقال زكريا الأحمر: في حيهل ثلاث لغات: يقال: حيهل بفلان بجزم اللام، وحيهل بفلان بحركة اللام، وحيهلاً بفلان بالتنوين. وقد يقولون من غير هل، من ذلك: حي على الصلاة. انتهى. فهل تكون لغةً في هلا، كما قال ابن جني في الخصائص عند الكلام على هلم. وهو: قال الفراء: أصل هلم هل زجر وحثٌ دخلت على أم كأنها كانت: هل أم، أي: اعجل واقصد. وأنكر أبو علي عليه ذلك وقال: لا مدخل هنا للاستفهام. وهذا عندي لا يلزم الفراء، لأنه لم يدع أن هل هنا حرف استفهام، وإنما هي عنده زجر، وهي التي في قوله: ولقد يسمع قولي حيهل قال الفراء: فألزمت الهمزة في أم التخفيف، فقيل: هلم. انتهى. وقال ابن عصفور: أن حيهلا مركبة من حي وهلا، إلا أن ألف هلا تحذف في بعض اللغات تخفيفاً. وهذا البيت من قصيدة طويلة للبيد بن ربيعة الصحابي، وقد شرحناه مع أبيات قبله في الشاهد الثامن والعشرين بعد المائتين. والتماري: المجادلة، ومثله الامتراء، وهما من المرية بالكسر، وهي الشك، وحيهل: بمعنى أسرع. وقول الشارح المحقق: وفي الكتاب الشعري لأبي علي: حيهل بكسر اللام وتنوينه، أراد به كتاب إيضاح الشعر فإنه يعبر عنه تارة بالأول، وتارة بالثاني، وتارة بكتاب الشعر. وهذا نصه فيه. وقد وصلوها بهل، فقالوا: حيهل. وزعم أبو الخطاب أن بعضهم يقول حي هل الصلاة. وقال أبو زيد: حي هل، وحي هل، وحي هلاً. والقول في حي هلٍ أن التنوين دخله للتنكير، كما دخل في صهٍ ونحوها. وكأنه قدر فيه الإسكان، كأنه قال: حي هل على الوقف، كما قال لبيد: ولقد يسمع قولي حيهل فكسر اللام، كما كسر الذال في يومئذ. ولا يجوز أن تكون حركة اللام للإضافة، لأن هذه الأسماء التي سميت بها الأفعال لا تضاف، ألا ترى أنه قال: جعلوها بمنزلة النجاك، أي: لم يضيفوها إلى المفعول، كما أضافوا المصادر وأسماء الفاعلين إليه. ويجوز أن يكون لما نكر حرك بالكسر، ليكون على لفظ غيره من أمثاله من النكرات، نحو صهٍ وإيهٍ، ولما جرى في كلامهم غير مضاف لإجرائهم إياه مجرى الفعل، لنصبهم الأسماء المخصوصة بعده: لم يستجيزوا إضافتها إلى المفعول به، فيكون ما لم يجعل بمنزلة الفعل على حد ما جعل من هذه الأسماء بمنزلته. ألا ترى أن الأسماء لم تجعل بمنزلة الفعل مفردة حتى ينضم إليها جزء آخر، وإن كان فيها ضمير، لأن الضمير الذي في اسم الفاعل لما لم يظهر في أكثر أحواله صار لا حكم له، فإذا لم يضيفوا هذا الباب لأن إضافته يخرج بها عن الحد الذي استعملت عليه، علمت أن الكاف في حيهلك للخطاب، لا لضمير الاسم. وإذا كان كذلك علمت أن الكاف فيه مثل الهاء في: ههناه وهؤلاء، في أنها لحقت الألف لتبينها لما لم يلتبس بالإضافة. فكذلك الكاف في حيهلك لحقت للخطاب، حيث لم يجز لحاق التي تكون اسماً في هذا الموضع، كما لم تلحق الهاء التي لحقت في ههناه أفعاه ونحوها. والضمير الذي في حيهل ينبغي أن يكون في مجموع الاسمين، ولا يكون في كل واحد منهما ضميرٌ كما كان في حي على الصلاة ضمير، لأن الاسمين جعلا بمنزلة اسم واحد، كما أن خمسة عشر بمنزلة مائة. فكما أن خمسة عشر حكمه حكم المفرد، كذلك حي هل حكمه حكم المفرد. وإذا كان كذلك، كان متضمناً ضميراً واحداً. ويدلك على ضم الكلمة الثانية إلى الأولى قول ابن أحمر: أنشأت أسأله عن حال رفقته *** فقال: حي فإن الركب قد ذهبا انتهى. وعلم من قوله: والضمير الذي في حيهل ينبغي أن يكون في مجموع الاسمين، أن ما نقله الشارح المحقق عنه، وعن أبي علي، حالهما مع التركيب في احتمال الضمير، كحال حلو حامض إلى آخر ما نقله، مخالفٌ لما هنا، ولعله نقله عنه من كتابٍ آخر له. والله أعلم. ونقل أبو حيان في الارتشاف عن النهاية لابن الخباز، قيل: في حي وهلا: ضميران؛ لأنهما في الأصل اسما فعل أمر، فكل واحدٍ منهما يستحق الضمير، وقيل: فيهما ضميرٌ واحد، لأنهما بالتركيب صارا كالكلمة الواحدة. ويدل على ذلك أن حي وهل لا يتعديان، فلما ركبا تعديا، فدل على أن حكم الإفراد قد زال. وقوله: يومٌ كثيرٌ تناديه وحيهله أضافه إلى الضمير وأعربه. انتهى. وحاصل ما ذكر الشارح من لغات حيهل ثمانية: أولها: حيهل بحذف الألف وإبقاء فتح اللام. قال ابن عصفور في شرح إيضاح أبي علي: إذا وقفت عليها في هذا الوجه، جاز أن تقف بالسكون، وأن تقف بالألف لتبين حركة المبني في الوقف. ثانيها: حيهل بسكون الهاء، وفتح اللام بلا تنوين. ثالثها: حيهلاً بفتح الهاء والتنوين. رابعها: حيهلاً بسكون الهاء والتنوين. ولا ينبغي أن يعد المنون من اللغات، إذ التنوين في اسم الفعل للتنكير. وإذا كان غير منون فهو معرفة فإن المجرد من التنوين غير المنون. قال أبو حيان في الارتشاف: ولا يكون المنون إلا بمعنى ائت. ويرد عليه: فحيهلاً بعمر، فإنه بمعنى أسرع بذكره. خامسها: حيهلا في الوقف، بفتح الهاء وسمون الألف وحذف التنوين فيهما. وقال ابن عصفور: هذه اللغة تكون في الوقف والوصل. ولم يقيد كونها رديئة في الوصل، كما قيد الشارح المحقق تبعاً لصاحب الصحاح. وقال ابن أبي الربيع: منهم من يقول: حيهلا في الوصل والوقف؛ لأن هلا صوت، ولأنه من إجراء الوصل مجرى الوقف، ولأن منهم من يقول حيهل بالسكون في الوصل، فإذا وقف وقف بالألف، فتكون الألف عوضاً من هاء السكت كألف أنا. وكذلك قال أبو حيان في الارتشاف: إن حيهلا بإثبات الألف تكون وصلاً ووقفاً، كما قال الشاعر: بحيهلا يزجون كل مطيةٍ سادسها: حيهل بسكون اللام في الوقف. وأطلق أبو حيان تبعاً لابن عصفور، سواء كان في الوقف، أم الوصل. وقال الراعي في شرح الألفية ذكر سيبويه في حيهل ثلاث لغات: فتح اللام بلا تنوين، وفتحها مع التنوين، وفتحها مع الإشباع. وزاد ابن سيده تسكين اللام. قيل: وما سمع منه لا حجة فيه؛ لاحتمال أن يكون للوقف. انتهى. وفيه ما تقدم عن كتاب النبات. وهذا نص سيبويه: من العرب من يقول حيهل إذا وصل، وإذا وقف أثبت الألف. ومنهم من لا يثبت الألف في الوقف والوصل. انتهى. سابعها: حيهلٍ بكسر اللام والتنوين. وظاهره أن الهاء في هذه اللغةيجوز سكونها أيضاً. ثامنها: حيهلك بفتح اللام وإلحاق الكاف التي هي حرف خطاب. ولم أعرف هل يجري مع الكاف سكون الهاء أيضاً أم لا؟ قال ابن عصفور: وتستعمل في جميع ذلك متعدية بنفسها، وبإلى، وبعلى، وبالباء. فإذا تعدت بنفسها كانت بمعنى ائت، وإذا تعدت بإلى وبعلى كانت بمعنى أقبل، وإذا تعدت بالباء كانت بمعنى جئ. انتهى. وقول الشارح المحقق: إن الباء للتعدية كذهبت به، فيه أنهم ذكروا أن باء التعدية في ذهبت به غير التعدية المشهورة، وذلك أن مدخولها يكون فاعلاً في المعنى كقوله تعالى: {ذهب الله بنورهم}، أي: جعله ذاهباً، فهي تساوي همزة التعدية. وهذا المعنى لا يجري هنا. وقول الشارح المحقق: وقد تركب حي مع هلا إلخ، قال ابن عصفور: إذا ركبت حي مع هلا، فالأكثر أن تستعمل لاستحثاث العاقل تغليباً لحي. ومنهم من يغلب هلا فيستعملها لاستحثاث غير العاقل؛ وذلك قليل. وقد يستعمل كل واحدة منهما على انفرادها؛ فإذا استعملت حي وحدها، كانت بمعنى أقبل، وإذا استعملت هلاً على انفرادها كانت بمعنى تقدم. وحي خاصةٌ باستحثاث العاقل، وهلا باستحثاث غير العاقل، إلا أن ذلك قليل. ومن ذلك قوله: ألا حييا ليلى وقولا لها هلا انتهى. وقال أبو حيان في الارتشاف: وحيهل: مركبة من حي، ومعناها أقبل، ومن هل وهلا. قال ابن هشام: بمعنى عجل، وقيل بمعنى قر وتقدم، وقيل إنها صوت الإبل. انتهى. وزعم الراعي في شرح الألفية أن حيهل كلمة واحدة عند الجمهور وقيل مركبة. انتهى. وهذا خلاف المنقول. قال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات: الحيهل: نبت من دق الحمض، الواحدة حيهلة، سميت بذلك لسرعة نباتها. قال حميد بن ثور: دميث به الرمث والحيهل والرمث أيضاً من الحمض. فأما أبو زياد، فقال: الحيهل، فخفف الياء، وسكنها فيما بلغني عنه، وقال: الحيهل ينبت في السباخ، وإذا أخصب الناس، ومطروا هلك، فلا يكاد يرى منه نبت، فإذا أسنتوا وذهبت المطار نبت في مواضعه، وهو دقاق قصفٌ ليس لها خشب ولا حطب، وإنما يأكله من الإبل، الإبل التي عودوها إياه. يحبسونها فيه حين لا تجد شيئاً تأكله، وربما قتل الإبل في أول أمرها، وذلك إذا أكلته، ثم كظم عليها لا تسلح، فإذا سلحت نجت وطابت بطونها. انتهى باختصار. وأنشد بعده: الشاهد الثاني والستون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س: فهيج الحي من كلبٍ فظل لهم *** يومٌ كثيرٌ تناديه وحيهله على أن ضمة اللام حركة إعراب، وهو مفرد بلا ضمير. قال سييبويه: وأما حيهل التي للأمر فمن شيئين، يدلك على ذلك: حي على الصلاة. وزعم أبو الخطاب أنه سمع من يقول: حي هل الصلاة. والدليل على أنهما جعلا اسماً واحداً قول الشاعر: وهيج الحي من دارٍ فظل لهم *** يومٌ كثيرٌ تناديه وحيهله والقوافي مرفوعة. وأنشدناه هكذا أعرابيٌّ من أفصح الناس، وزعم أنه شعر أبيه. انتهى. قال الأعلم: الشاهد في قوله: حيهله وإعرابه بالرفع، لأنه جعله، وإن كان مركباً من شيئين، اسماً للصوت، بمنزلة معديكرب في وقوعه اسماً للشخص، وكأنه قال: كثيرٌ تناديه وحثه ومبادرته، لأن معنى قولهم: حيهل: عجل وبادر، وصف جيشاً سمع به، وخيف منه، فانتقل عن المحل من أجله وبودر بالانتقال قبل لحاقه. انتهى. وفي شرح أبيات المفصل لابن المستوفي: وقال السيرافي: زعم سيبويه أن الشعر لرجلٍ من بني أبي بكر بن كلاب، واحتج به ليري أنه من شيئين، إذ ليس في الأفعال والأسماء المفردة مثل هذا البناء. قال ابن السراج في حيهله: جعله اسماً واحداً كحضرموت، ولم يأمر أحداً بشيء. قال سيبويه: والقوافي مرفوعة، أي: أنه جعله بمنزلة اسم واحد، ولو لم يكن كذلك لقال وحيهله بالفتح. وجميع ما يجري هذا المجرى إذا جعل علماً أعرب. وقالوا: إذا قال حيهلا تركه على البناء مع التسمية، وإذا قال حيهله أعربه كما يعرب وبار، إذا سمي به. ووجدته يروى لرجلٍ من بجيلة. انتهى. وهيج بمعنى فرق، وفاعله ضمير الجيش على ما قاله الأعلم. والحي: القبيلة مفعوله. وقوله: من كلب هي قبيلة. ولم أره كذا إلا هنا، وأما في كتاب سيبويه، وفي المفصل وشروحهما، فقد رأيت بدله من دار. قال أبو عبيد في معجم ما استعجم: دار معرفة لا تدخله الألف واللام، قال ابن دريد: هو وادٍ قريبٌ من هجر، معروف.انتهى. وظل: بمعنى استمر. ويومٌ: فاعل ظل، وتناديه: فاعل كثير. والتنادي: تفاعل، مصدرٌ من نادى القوم بعضهم بعضاً. وحيهله: معطوف عليه. وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل: قيل فاعل هيج غراب البين وقد ذكر قبل. ويجوز أن يكون هيج، وظل متوجهين إلى يومٌ على التنازع. وظل لهم يوم، من باب قولهم: نهاره صائم؛ لأن الظلول في الحقيقة للقوم، لا لليوم. وروى: فظللهم موصولاً. ومعناه دنا منهم يومٌ، وحقيقته: ألقى عليهم ظله.انتهى. والبيت من أبيات سيبويه الخمسين التي ما عرف قائلها. والله أعلم. وأنشد بعده: الشاهد الثالث والستون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س: بحيهلا يزجون كل مطيةٍ *** أمام المطايا سيرها المتقاذف على أن حيهلا بلا تنوين محكيٌّ أريد به لفظه. قال النحاس: جعله بمنزلة خمسة عشر، فلذلك لم ينونه. وقال الأعلم: الشاهد في قوله: بحيهلا، فتركه على لفظه محكياً. يقول: لجعلتهم يسوقون المطايا بقولهم: حيهلا. ومعناه الأمر على أنها متقدمة في السير متقاذفة عليه، أي: مترامية. وجعل التقاذف للسير اتساعاً ومجازاً. انتهى. قال ابن السيرافي: المتقاذف: الذي يتبع بعضه بعضاً، كأن كل سيرٍ تسيره هذه المطية يقذف بها إلى سيرٍ آخر. ومثله قول عمر بن أبي ربيعة: أخو سفرٍ جواب أرضٍ تقاذفت *** به فلواتٌ فهو أشعث أغبر أي: رمته فلاةٌ إلى أخرى. وقال غيره: إن القذاف سرعة السير. وفرس متقاذف: سريع العدو. ويجوز أن يكون المتقاذف الذي يرمي بعضه بعضاً لسرعته. والإزجاء بالزاي المعجمة والجيم: السوق. والمطية: الدابة، يقال لها لأنها تمطو في السير، أي: تمتد. وأمام بالفتح، قال ابن الحاجب في أماليه: يريد أنهم مسرعون في السير، فهم يسوقون بهذا الصوت لتسرع في سيرها. وقال: أمام المطايا، لأنه إذا سبقت الأولى تبعها ما بعدها، بخلاف سوق الأواخر. وقال:سيرها المتقاذف، يعني أنهم يسوقونها مع كون سيرها متقاذفاً، والتقاذف: الترامي في السير، وإذا سبق المتقاذف كان سيره أبلغ مما كان عليه. وأمام المطايا في موضع وصف المطية، وسيرها المتقاذف جملة ابتدائية صفةٌ لمطية، والجار والمجرور متعلق بيزجون. انتهى. وأجود من هذا أن يكون سيرها فاعل الظرف، لاعتماده على الموصوف، والمتقاذف صفة لسيرها. ويجوز أن يكون سيرها المتقاذف مبتدأ موصوفاً والظرف قبله خبره، والجملة صفة مطية. والبيت أنشده سيبويه للنابغة الجعدي الصحابي، وتبعه عليه خدمة كتابه. وقد تقدمت ترجمته في الشاهد السادس والثمانين بعد المائة. ونقل ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل عن السيرافي أنه من قصيدةٍ لمزاحم ابن الحارث العقيلي. وأورد هذه الأبيات منها: ووجدي بها وجد المضل بعيره *** بمكة لم تعطف عليه العواصف رأى من رفيقيه الجفاء وفاته *** بنشدانها المستعجلات الخوانف وقالوا: تعرفها المنازل من منًى *** وما كل من وافى منًى أنا عارف الوجد: ما يجده الإنسان من العشق. والمضل: اسم فاعل من أضله، وجملة لم تعطف إلخ، حال من المضل. وهذا غايةٌ في الحيرة. ولم تعطف عليه العواطف: جمع عاطفة، أي: لم يرق عليه أحد ولم يحمله على بعير من إبله، وهو جمع عاطفة. ويراد بها في الصداقة والرحم والمودة والصحبة وما أشبه ذلك. وروي: نخلة بدل مكة، وهي موضعٌ بقرب مكة، وعليها يؤخذ الحاج بعد انقضاء حجهم، ولذلك قال: لم تعطف إلخ. لأنهم آخذون في الانصراف. أي: إنه وجد بمفارقته لها كما وجد الذي ضل بعيره في هذا الموضع. والبيت من أبيات سيبويه، ومحل الشاهد فيه أنه جعل وجدي: مبتدأ، ووجد المضل: خبره لا يستغني عنه، فلم يجز نصبه على المصدرية. وأصله وجدي بها وجدٌ مثل وجد المضل بعيره. والخوانف: جمع خانفة، وهي الناقة التي تخنف برأسها، أي: تميلها إذا عدت. وهي بالخاء المعجمة والنون والفاء. وقوله: وقالوا تعرفها المنازل إلخ، قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم: كانوا يسمون منًى المنازل، وأنشد هذا البيت. ثم قال: ويقال للرجل إذا أتاها: نازل. قال عامر بن الطفيل: أنازلةٌ أسماء أم غير نازلة *** أبيني لنا يا أسم ما أنت فاعله وقال غيره: المنازل من منًى: حيث ينزلون أيام رمي الجمار. والبيت أورده سيبويه في موضعين من كتابه، برفع كل على لغة الحجاز. قال سيبويه: وإن شئت حملته على ليس، يعني إن شئت جعلت كل مرفوعاً بما، وجعلت أنا عارف في موضع الخبر، وأضمرت في عارفٍ هاء تعود إلى كل، كأنك قلت: عارفه. ثم قال: وإن شئت حملته على كله لم أصنع. وهذا أبعد الوجهين، يعني: وإن شئت رفعت كل بالابتداء وجعلت الجملة في موضع الخبر كذلك، على لغة تميم كما قلت: كله لم أصنع، فرفعت كل بالابتداء، وأضمرت هاءً في أصنع. ومعنى قوله: وهذا أبعد الوجهين يعني رفع كل بالابتداء، وذلك لأن من يرفعه بالابتداء لا يعمل ما، فإذا لم يعملها أمكنه أن يعمل عارف في كل، فإذا لم يعمل فقد قبح، إذ قد وجد السبيل إلى المختار، ولا ضرورة تدعو إلى غيره. ومن رفع كل ب ما، فهو لا يجد السبيل إلى إعمال عارف في كل إلا بحذف ما، وحذفها يغير المعنى. وقال النحاس: ويجوز أن ينصب كلاًّ بعارف على أنها تميمية. وقال ابن خلف: هذا البيت روي برفع كل ونصبه على جعل ما تميمية وإبطال عملها. ونصب كل بعارف. وأنشده الفراء أيضاً في تفسيره مرتين: الأولى عند قوله تعالى: {يسألونك ماذا ينفقون}. قال: أنشدني أبو ثروان: وقالوا تعرفها المنازل من منًى *** البيت رفعاً. قال: ولم أسمع نصب كل. والثانية عند قوله تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره} قال: العرب في كل تختار الرفع، وقع الفعل على راجع الذكر ولم يقع. وأنشدوني فيما لم يقع الفعل على راجعٍ ذكره: فقالوا تعرفها المنازل ***.............. البيت فلم يقع عارفٌ على كل، وذلك أن في كل تأويل: وما من أحدٍ وافى منًى أنا عارف. ولو نصبت لكان صواباً، وما سمعته إلا رفعاً. وقال الآخر: قد علقت أم الخيار تدعي *** علي ذنباً كله لم أصنع رفعاً. وأنشدنيه بعض بني أسد نصباً. انتهى. وأنشده ابنالناظم في شرح الألفية، وابن هشام في شرحها، وفي المغني أيضاً بنصب كل على إبطال ما، لإيلائها معمول الخبر، وليس ظرفاً لأن كلا معمول لعارف. وقال ابن هشام في شرح شواهده: ويروى كل بالرفع على أنه اسم ما، والجملة من قوله: أنا عارف خبرها، والعائد محذوف، أي: عارفه. وذلك متسهلٌ إذا كان المخبر عنه كلاًّ، كقراءة ابن عامر: وكلٌّ وعد الله الحسنى ، وكقوله: ثلاثٌ كلهن قتلت عمداً وقول أبي النجم: كله لم أصنع وانتصاب المنزل على إسقاط في توسعاً، لا على الظرف، لأنه مختص. انتهى. وهذا ردٌّ على ابن خلف في زعمه أنه منصوب على الظرف. وتعرفها، أي: أعرف منزلها بالسؤال عنها. قال النحاس: سألنا أبو إسحاق الزجاج عن معنى هذا البيت فقال: الإنسان يسأل عن الشيء من يعرفه ومن لا يعرفه، فما معنى هذا البيت؟ وأجاب فقال: هذا يذكر امرأة يتعشقها، فليس يسأل عن خبرها إلا من يعرفه، ويعرفها. ومزاحم بن الحارث شاعرٌ إسلاميٌّ من بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. قال صاحب الأغاني: وقيل هو مزاحم بن عمرو بن مروة بن الحارث. وهذا القول أقرب عندي إلى الصواب. انتهى. فيكون الحارث على هذا جد أبيه. ثم قال: وهو شاعر بدويٌّ فصيح إسلامي، كان في زمن جرير والفرزدق، وكان جريرٌ يصفه ويقرظه ويقدمه، ويقول: ما من بيتين كنت أحب أن أكون سبقت إليهما غير بيتين من قول مزاحم العقيلي، وهما: وددت على ما كان من سرف الهوى *** وغي الأماني أن ما شئت يفعل فترجع أيامٌ تقضت ولذةٌ *** تولت وهل يثنى من الدهر أول وسرف الهوى: خطؤه. ومثله قول جرير: ما في عطائهم منٌّ ولا سرف أراد أنهم يحفظون مواضع الصنائع، لا أنه وصفهم بالاقتصاد والتوسط في الجود. وروي أن الفرزدق دخل على عبد الملك بن مروان - وبعض بنيه - فقال له: يا فرزدق، أتعرف أحداً أشعر منك؟ قال: لا، إلا أن غلاماً من بني عقيل يركب أعجاز الإبل، وينعت الفلوات فيجيد! ثم جاءه جرير فسأله عن مثل ما سأل عنه الفرزدق، فأجابه بجوابه، فلم يلبث أن جاءه ذو الرمة، فقال له: لا ولكن غلامٌ من بني عقيل يقال له مزاحم يسكن الروضات، يقول وحشياً من الشعر لا يقدر على قول مثله. فقال: أنشدني بعض ما تحفظ من ذلك. فأنشده: خليلي عوجا بي على الدار نسأل *** متى عهدها بالظاعن المحتمل فعجت وعاجوا بين بيداء مورت *** بها الريح جولان التراب المنخل حتى أتى على آخرها. ثم قال: ما أعرف أحداً يقول قولاً يواصل هذا. انتهى. وأنشد بعده: إن لواً وإن ليتاً عناء هذا عجز، وصدره: ليت شعري وأين مني ليت ويأتي شرحه إن شاء الله في باب العلم. وأنشد بعده الشاهد الرابع والستون بعد الأربعمائة لشتان ما بين اليزيدين في الندى *** يزيد سليمٍ والأغر بن حاتم على أنه قد يقال في غير الأكثر الأفصح: شتان ما بين زيدٍ وعمرو، كما في البيت. قال أبو علي في المسائل العسكرية: وأما شتان فموضوع موضع قولك: افترق متباين، وهو من قوله عز وجل: {إن سعيكم لشتًى}، وأشتاتاً. وهذا الباب إذا كان كذلك اقتضى فاعلين فصاعداً، فمن ثم يقال: شتان زيدٌ وعمرو. وعلى هذا قول الأعشى: شتان ما يومي على كوره *** ويوم حيان أخي جابر فأسنده إلى فاعلين معطوفٍ أحدهما على الآخر. فأما قولك: شتان ما بينهما، فالقياس لا يمنعه إذا جعلت ما بمنزلة الذي، وجعلت بين صلة، ل، ما لإبهامها قد تقع على الكثرة، ألا ترى قوله: يعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم . ثم قال: ويقولون، فعلمت أن المراد به جمع. وكذلك: ما لا يملك لهم رزقاً ، ثم قال: ولا يستطيعون فإذا كان كذلك لم يمتنع في القياس. وقد جاء في الشعر: لشتان ما بين اليزيدين إلا أن الأصمعي طعن في فصاحة هذا الشاعر، وذهب إلى أنه غير محتجٍّ بقوله. ورأيت أبا عمرو قد أنشد هذا البيت على وجه القبول له والاستشهاد به. وقد طعن الأصمعي على غير شاعر قد احتج بهم غيره، كذي الرمة والكميت، فيكون هذا أيضاً مثلهم. انتهى. ومثله للإمام المرزوقي في شرح فصيح ثعلب قال: شتان موضوعٌ موضع تشتت، وإذا قلت: شتان ما هما، ف ما صلة أكد بها الكلام، وهما في موضع الفاعل، ولا يستغنى بواحد، لأنه وضع لاثنين فصاعداً، كما أن تشتت كذلك. والعامة تقول: شتان ما بين فلان وفلان، وكثيرٌ من الناس يدفعونه، حتى خطأ جماعةٌ من النحويين ربيعة الرقي. وله وجه صحيح، وهو أن يكون ما لأحوال اليزيدين وأوصافهما، وجعلت ما بعده صلة له فعرفته، وصفة له فنكرته، لأنه حينئذ يصح دخول شتان وتشتت عليه. ولا يكون لواحدٍ. انتهى. وهذا مخالفٌ لصنيع الشارح المحقق، فإنه منع ما أن تكون موصولة مع تفسير شتان بما يطلب فاعلين، لأن بين مع الأمور المعنوية تقتضي المشاركة في شيئين والمشاركة هنا لا تصح. فإن مشاركة اليزيدين في كلٍّ من خصلتي الجود والبخل ضد مقصود الشاعر، وإنما مراده انفراد أحدهما بالجود، والآخر بالبخل. ويدل عليه قوله بعد: فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله *** وهم الفتى القيسي جمع الدراهم وهذا مبنيٌّ على أن في البيت حذف معطوف، والتقدير: لشتان ما بين اليزيدين في الندى والبخل، فيكون من قبيل قوله تعالى: {سرابيل تقيكم الحر}، أي: والبرد. فإن قلت: يجوز أن يشتركا في الندى، ويكون أحدهما في الطرف الأعلى منه، والآخر في الطرف الأسفل، فلا يكون فيه حذف معطوف. قلت: هذا أيضاً خلاف مقصوده. فإنه يريد أن يثبت صفة الجود لأحدهما، ويثبت خلافها للآخر، فلا اشتراك لهما في أصل الجود. ويدل عليه قوله أيضاً: يزيد سليمٍ سالم المال، والفتى *** أخو الأزد للأموال غير مسالم فلما رأى الشارح المحقق ما ذكر من منع تفسير شتان ب افترق، حمل شتان على معنى بعد الطالب لفاعلٍ واحد، وهو: إما ما وتكون عبارةً إما عن البون والمسافة. والبون: الفضل والمزية، وهو مصدر بانه يبونه بوناً، إذا فضله. وبينهما بون، أي: بين درجتيهما وبين اعتبارهما في الشرف. وأما إذا كانا متباعدين بالجسم. فيقال: بينهما بين بالياء. والمسافة: قطع الطريق، مفعلة من السوف، وهو الشم، لأن الدليل يسوف تراب الموضع الذي يسير فيه، فإن استافا رائحة أبوال الإبل وأبعارها علم أنه على جادةٍ، وإلا فلا يقال: بينهم مسافة بعيدة. وما في الحقيقة على هذين الوجهين موصولة، أي: البون الذي بينهما، والمسافة التي بينهما. وإما بين هو الفاعل، وتكون ما زائدة كما قرره الشارح المحقق. ويؤيده ورود بين بالنصب فاعلاً لشتان بدون ما. قال حسان بن ثابت: وشتان بينكما في الندى *** وفي البأس والخير والمنظر وقال آخر: أخاطب جهراً إذ لهن تخافتٌ *** وشتان بين الجهر والمنطق الخفت وقال جميل: أريد صلاحها وتريد قتلي *** وشتى بين قتلي والصلاح أصله شتان وحذفت النون ضرورة. وعلى هذا لا يعتبر حذف معطوف، كما اعتبر على غير توجيه الشارح المحقق. ويجوز رفع بين إذا لم يسبقها ما، وقدمه صاحب القاموس على النصب، فقال: وشتان بينهما، وينصب. وروى أبو زيد في نوادره قول الشاعر: شتان بينهما في كل منزلةٍ *** هذا يخاف وهذا يرتجى أبدا برفع بين. ثم قال: ومن العرب من ينصب بينهما، كقوله تعالى: {لقد تقطع بينكم}. وبين: لفظ مشترك بين المصدر والظرف، وهي من الأضداد تكون للوصل وللفرقة. قال في القاموس: البين يكون فرقةً ووصلاً، واسماً وظرفاً متمكناً. وقول الشارح المحقق، كما هو مذهب الأخفش، في قوله تعالى: {يفصل بينكم} بالبناء للمفعول إما بتشديد الصاد، وهي قراءة ابن عامر، وإما بتخفيفها وهي قراءة غيره وغير الأخوين وعاصم. وأما قراءة الأخوين فهي بالبناء للمعلوم مع تشديد الصاد. وأما قراءة عاصم فهي كذلك مع تخفيفها. قال السمين في الدر المصون: من بناه للمفعول فالنائب إما ضمير المصدر والظرف، وبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن. والظرف وهو باقٍ على نصبه. انتهى. وهذا الأخير هو قول الأخفش. واعلم أن الشارح المحقق مسبوقٌ بتوجيهه. أما الأول فقد قال ابن عصفور في شرح الإيضاح لأبي علي: والذي يجيز شتان ما بينهما يجعل شتان بمنزلة بعد، فكما يجوز بعد ما بين زيد وعمرو، كذلك يجوز: شتان ما بين زيد وعمرو. ومثله لابن السيد في شرح أدب الكتاب. قال: كان ربيعة عند الأصمعي ممن لا يحتج بشعره. وهذا غلط لأن شتان اسمٌ للفعل يجري مجراه في العمل، فلا فرق بيت ارتفاع ما به في بيت ربيعة، وارتفاع اليوم في بيت الأعشى، كما أنك لو قلت: بعد ما بين زيد وعمروٍ، لجاز بالاتفاق. وكذلك قال اللبلي في شرح فصيح ثعلب: شتان بمعنى بعد وتفرق، وما بمعنى الذي، فاعل شتان، وبين صلة ل ما. وأما الثاني فقد قال أبو البقاء: إن جعلت ما: زائدة وبين فاعلاً، وهي ظرفٌ، لا تكاد العرب تستعملها كذلك. وإن جعلتها بمعنى الذي ضعف أيضاَ، لأن المعنى يصير افترق الذي بين زيد وعمرو. وليس المراد ذلك، بل المراد افترق زيد وعمرو. ومن أجازه قال: إن مفارقة زيدٍ لعمرو ليس من جهة الأشخاص، بل المراد افتراقهما في الأخلاق والأحوال، وهو المعني بالذي. انتهى. وقوله: لا تكاد العرب تستعملها كذلك غير مسلم؛ فإنه قد قرأ به في القرآن في عدة مواضع. وكلامه وإن كان على اعتبار شتان بمعنى ما يقتضي فاعلين إلا أن المنزعين فيه. وأما إنكار الأصمعي شتان ما بينهما فقد قال ابن بري في حاشية الصحاح: ليس بشيء، لأن ذلك قد جاء في أشعار العرب، وقال أبو الأسود الدئلي: وشتان ما بيني وبينك أنني *** على كل حالٍ أستقيم وتظلع ومثله قول البعيث: وشتان ما بيني وبين ابن خالدٍ *** أمية في الرزق الذي يتقسم وقال آخر: وشتان ما بيني وبين رعاته *** إذا صرصر العصفور في الرطب الثعد والثعد: بفتح المثلثة: ما لان من البسر. ويقال: شتان بينهما أيضاً بدون ما. وتقدمت أبياته. وقد تبع الأصمعي في إنكاره جماعةٌ، منهم ابن قتيبة في أدب الكاتب قال: يقال: شتان ما هما بنصب النون، ولا يقال: شتان ما بينهما، وليس قوله: لشتان ما بين اليزيدين في الندى بحجة. ومنهم الأزهري في التهذيب قال: قول ربيعة ليس بحجة، إنما هو مولد. وأبى الأصمعي شتان ما بينهما. قال أبو حاتم: فأنشدته قول ربيعة، فقال: ليس بفصيح يلتفت إليه. وقول الشارح المحقق: وموهمه شيئان: أحدهما لغة في شتان، وهي كسر النون، قال الإمام المرزوقي في شرح فصيح ثعلب: أصحابنا البصريون لا يجيزونفيه إلا الفتح، ولو كان مثنى لجاز تأخيره فقيل: زيد وعمرٌو شتان، بل كان هو الوجه والترتيب، ولجاز أن يقلب ألفه في النصب والجر ياء، وذلك لا يعرف. ألا ترى أن قولهم سيان زيدٌ وعمرو، لما كان مثنى سيٍّ وهو المثل جاز جميع ذلك فيه. انتهى. وزعم ثعلب في فصيحه أن كسر النون هو قول الفراء. ونقل شارحه اللبلي عن ابن درستويه أن الفراء إنما ذهب إلى الكسر لأن المعنى لما كان للاثنين ظن أن شتان مثنى فكسره، والعرب كلها تفتحه، والكسر لا يجيزه عربي. انتهى. أقول: أن الفراء لم يذهب إلى أن النون مكسورة لا غير، وشتان مثنى شتٍّ، وإنما حكى أن كسر النون لغةٌ في فتحها. قال في تفسيره عند قوله تعالى: {ما هذا بشر}: أنشدني بعضهم: لشتان ما أنوي وينوي بنو أبي *** جميعاً فما هذان مستويان تمنوا لي الموت الذي يشعب الفتى *** وكل فتًى والموت يلتقيان قال الفراء: يقال شتان ما أنوى بنصب النون وخفضها، هذا كلامه. وكذا نقل الصاغاني في العباب عنه، أن كسر النون لغة في فتحها، وليس فيما زعمه ابن درستويه. وبه يسقط ترديد أبي سهل الهروي في شرح الفصيح حيث قال: وأما على قول الفراء، فإنه يجوز أن يكون كسر النون على أصل التقاء الساكنين، ويجوز أن أراد تثنية شت، وهو المتفرق. انتهى. وزعم ابن الأنباري في الزاهر أنه يجوز كسر النون في شتان ما بين أخيك وأبيك، قال: لأنها رفعت اسماً واحداً. ويجوز كسرها في غيره، وهو شتان أخوك وأبوك، وشتان ما أخوك وأبوك. قال: يجوز في هذا كسر النون على أنه ثنية شت. هذا كلامه، وفيه ما لا يخفى. قال الشارح المحقق: الثاني: إن المرفوع بعده لا يكون إلا مثنى وما هو بمعنى المثنى إلخ، أقول: قد ورد المرفوع بعد شتان أربعةً، قال لقيط بن زرارة: شتان هذا والعناق والنوم *** والمشرب البارد في ظل الدوم وهذا مما يرد على الأصمعي، ويؤيد قول غيره أن شتان لا يكتفي بواحد، لأنه وضع لاثنين فصاعداً. وقد أجاز ثعلبٌ ما منعه الأصمعي، قال في فصيحه: وتقول: شتان زيدٌ وعمرو، وشتان ما هما، نون شتان مفتوحة. إن شئت قلت شتان ما بينهما. والفراء يخفض نون شتان. انتهى. ومحصل الكلام فيها أن شتان يكون مرفوعها شيئين اتفاقا، وأكثر عند غير الأصمعي، ويكون معهما ما الزائدة وبدونها. والصحيح جواز شتان ما بينهما، خلافاً للأصمعي. ولم يتعرض ابن السراج في الأصول لهذا. قال: قولك شتان زيد وعمرٌو، معناه بعد ما بين زيدٍ وعمرٍو جداً. وهو مأخوذ من شت. والتشتيت: التبعيد ما بين الشيئين والأشياء، فتقديره تباعد زيد وعمرو. انتهى. وهي عند الشارح قسمان: أحدهما: ما ذكر من أنه لا بد لها من مرفوعين فصاعداً. والثاني: جواز الاكتفاء بمرفوع واحد. وهو في شتان ما بينهما لكونهما بمعنى واحد. وبقي استعمالها مع ما الموصولة بفعلٍ، ولم يذكروه. وهو ما أورده الفراء في الشعر المذكور، وهو لشتان ما أنوي. وينبغي أن تقدر ما الموصولة في الفعل الثاني، ليكون مرفوعها شيئين. وهي اسم فعلٍ على الصحيح. قال ابن عصفور في شرح الإيضاح: وهو ساكن في الأصل، إلا أنه حرك لالتقاء الساكنين، وكانت الحركة فتحةً إتباعاً لما قبلها وطلباً للخفة، ولأنه واقعٌ موضوع الماضي مبنيٌّ على الفتح، فجعلت حركته كحركته. وزعم المرزوقي والهروي في شرح الفصيح أنها مصدر. قال الأول: شتان مصدر لم يستعمل فعله. وهو مبنيٌّ على الفتح، لأنه موضع فعل ماض، وزيدٌ: فاعل له. وقال الثاني: معنى شتان البعد المفرط بين الشيئين، وهو اسمٌ وضع موضع الفعل الماضي، تقديره: شت زيد وعمرٌو، أي: تشتتاً وتفرقاً جداً. وسبقهما الزجاج كما نقل الشارح المحقق. قال ابن عصفور: وزعم الزجاج أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الفعل جاء على فعلان فخالف أخواته، فبني لذلك، فإن قيل: لنا فعلانٌ في المصادر، قالوا: لوى يلوي لياناً، وشنئته شنآناً. وأن لو وضعت لياناً وشنآناً موضع الفعل، لبقيا على إعرابهما ولم يبنيا. فالجواب: أنهما مصدران قد استعملا بعد فعلهما وتمكنا، فإذا وقعا موقع فعلهما بقيا على إعرابهما، وليس كذلك شتان؛ لأنك لا تقول شت يشت شتاتاً، وإنما استعمل في أول أحواله موضوعاً موضع الفعل المبني، فبني لذلك. انتهى. قال ناظر الجيش في شرح التسهيل: مقتضى هذا الجواب أن تبنى المصادر الملتزم إضمار ناصبها، كسبحان الله ومعاذ الله. انتهى. وجوز المازني تنوين شتان، قال أبو علي في التذكرة القصرية: قال أبو عثمان: سبحان وشتان يجوز تنوينهما اسمين كان وفي موضعهما. قال أبو علي: شتان إذا كان في موضعه، فهو اسمٌ للفعل، وهو شت بمنزلة صه، فإن نونته فهو نكرة، وإن لم تنونه فهو معرفة. فإن قيل: كيف يجوز أن يكون معرفةً، وهو بمنزلة شت، وكذلك صه بمنزلة اسكت، واسكت وصه لا يجوز أن يكونا معرفة. قيل: لأنهما اسمان للفعل وليسا بفعل. فإن نقلت شتان عن أن يكون اسماً للفعل، فجعلته اسماً للتشتيت معرفة، وصار بمنزلة: سبحان من علقمة الفاخر في أنه اسمٌ للتنزيه معرفة جاز. فإن نونته ونونت سبحان هذا تنكر لأجل التنوين، وصار بمنزلة زيدٍ من الزيدين، إذا نكرت زيداً المعرفة. ويضعف جعل هذه المعرفة نكرة، لأن المعنى الملقب بسبحان وشتان، شيءٌ واحد لا يصح له أن يكون أمثالٌ من جنسه، هي تنزيه وتشتيت، وليس كذلك الملقب بزيد، لأنه يصح أن يكون له أمثالٌ من جنسه، فيقدر زيداً من الزيدين يصح في المعنى، وتقدير سبحان من أمثاله لا يصح في المعنى. فالجواب أن هذا وإن لم يصح في المعنى، فإن تقديرهم له تقدير ما يصح له في هذا المعنى جائزٌ، يدل على ذلك أن من قال: هذا ابن عرس مقبلاً، نزل الجنس منزلة شيء واحدٍ، وإن كان في الحقيقة أشياء، ثم قال: هذا ابن عرس مقبلٌ، نزل ما قد نزله منزلة شيء واحد منزلة أشياء كثيرة. فهذا ابن عرس مقبلٌ، بمنزلة زيد من الزيدين منكراً من هذا ابن عرس مقبلاً. ونظير تلقيب المعنى بسبحان وشتان، فيمن جعله لقباً للمعنى، جعل النحويين أفعل معرفة في قولهم: أفعل إذا كان وصفاً لا ينصرف، فيجعلون أفعل معرفةً لقباً للمعنى، وهو هذا الوزن. فلم يخرج النحويون بتلقيبهم المعاني عن كلام العرب، لأنها قد لقبت المعاني كما لقبت الأشخاص. ونظير ذلك قولهم: فحملت برة واحت *** لت فجار وبرة تلقيب المعنى، فلهذا لم يصرفها. انتهى كلام أبي علي، ولنفاسته سقناه برمته. والبيت الشاهد من قصيدةٍ لربيعة الرقي، مدح فيها يزيد بن حاتم المهلبي. وهذه أبياتٌ من أولها: لفت يميناً غير ذي مثنويةٍ *** يمين امرئٍ آلى بها غير آثم لشتان ما بين اليزيدين في الندى *** يزيد سليمٍ والأغر ابن حاتم يزيد سالمٍ سالم المال والفتى *** أخو الأزد للأموال غير مسالم فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله *** وهم الفتى القيسي جمع الدراهم فلا يحسب التمتام أني هجوته *** ولكني فضلت أهل المكارم فيا أيها الساعي الذي ليس مدرك *** بمسعاته سعي البحور الخضارم سعيت ولم تدرك نوال ابن حاتمٍ *** لفك أسيرٍ واحتمال العظائم كفاك بناء المكرمات ابن حاتمٍ *** ونمت وما الأزدي عنها بنائم فيا ابن أسيد لا تسام ابن حاتم *** فتقرع إن ساميته سن نادم هو البحر إن كلفت نفسك خوضه *** تهالكت في أمواجه المتلاطم تمنيت مجداً في سليمٍ سفاهةً *** أماني حالٍ وأماني حالم ألا إنما آل المهلب غرةٌ *** وفي الحرب قاداتٌ لكم بالخزائم هم الأنف والخرطوم والناس بعدهم *** مناسم والخرطوم فوق المناسم قضيت لكم آل المهلب بالعل *** وتفضيلكم حقاً على كل حاكم لكم شيمٌ ليست لخلقٍ سواكم *** مناعيش دفاعون عن كل جارم وقوله: حلفت يميناٍ إلخ، مثنوية: مصدر بمعنى الاستثناء في اليمين، أي: حلفت غير مستثن في يميني. وقوله: غير ذي مثنوية، أي: غير يمين ذي مثنوية. وهذا المصراع من شعرٍ للنابغة الذبياني، وتمامه: ولا علم إلا حسن ظنٍّ بصاحب وهو من شواهد سيبويه، وقد شرحناه مع قصيدته في الشاهد الثالث والعشرين بعد المائتين. وقوله: يمين امرئ إلخ، مفعول مطلق تشبيهي أي: كيمين. واليمين: القسم، سمي بها لأنهم إذا تحالفوا ضرب كل امرئٍ منهم على يمين صاحبه. قال صاحب المصباح: ويمين الحلف أنثى. قال ابن الأنباري: ولهذا أعاد الضمير عليها من بها مؤنثاً. وآلى، بمعنى أقسم. وقوله: لشتان ما بين اليزيدين إلخ، اللام في جواب القسم، وما بعدها جوابه. قيل: شتان ما بين اليزيدين صار مثلاً في ظهور الفرق. والندى: السخاء والجود، والألف أصلها واو، لأنه يقال ندوت. ويقال: سن للناس الندى فندوا بفتح الدال. والأغر من الغرة، وهو بياضٌ فوق الدرهم في جبهة الفرس. يقال: فرسٌ أغر ومهرة غراء، وقد استعيرت للوضوح والشهرة. وقال في المصباح: ورجلٌ أغر: صبيحٌ، وسيد قومه. أما يزيد سليم فهو يزيد بن أسيد بضم الهمزة وفتح السين المهملة، وينتهي نسبه إلى بهثة بضم الموحدة وسكون الهاء بعدها ثاء مثلثة، ابن سليم، بضم السين، ابن منصور بن عكرمة بن خصفة، بفتح الخاء المعجمة والصاد المهملة، ابن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وأما يزيد بن حاتم، فهو يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، وينتهي نسبه إلى الأزد، وهي قبيلة عظيمة باليمن. وهو جد الوزير المهلبي. فإنه أبو محمد الحسن بن محمد بن هارون بن إبراهيم بن عبد الله بن يزيد بن حاتم. ومات في سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة. وكان السبب في هذه القصيدة أن ربيعة قصد يزيد بن أسيد، وهو يومئذٍ والٍ على أرمينية، وكان قد وليها زماناً طويلاً لأبي جعفر المنصور، ثم من بعده لولده المهدي. وكان يزيد هذا من أشراف قيس وشجعانهم، ومن ذوي الآراء الصائبة. ومدحه ربيعة بشعرٍ أجاد فيه فقصر يزيد في حقه. ومدح يزيد بن حاتم فبالغ في الإحسان إليه، فقال ربيعة هذه القصيدة يفضل يزيد بن حاتم على يزيد بن أسيد. وكان في لسان يزيد بن أسيد تمتمة، فعرض بذكرها: فلا يحسب التمتام أني هجوته. كذا في تاريخ ابن خلكان. قال صاحب المصباح: وتمتم الرجل تمتمةً، إذا تردد في التاء، فهو تمتام بالفتح. وقال أبو زيد: هو الذي يجعل في الكلام ولا يفهمك. وقال ابن عبد ربه في ثلاثة مواضع من العقد الفريد: مدح ربيعة الرقي يزيد بن أسيد السلمي، فلم يعطه شيئاً، ثم عطف على يزيد بن حاتم وهو والي مصر ومدحه، فتشاغل عنه في بعض الأمور، واستبطأه ربيعةً فشخصمن مصر، وقال: أراني ولا كفران لله راجع *** بخفي حنينٍ من نوال ابن حاتم فبلغ قوله يزيد بن حاتم فأرسل في طلبه، فلما دخل عليه، قال له: أنت القائل: أراني ولا كفران لله راجع ***.............البيت قال: نعم، قال: هل قلت غير هذا؟ قال: لا. قال: والله لترجعن بخفي حنين مملوءة ذهباً. فأمر بخلع خفيه وأن تملئا دنانير. ثم قال له: أصلح ما أفسدت من قولك. فقال فيه لما عزل من مصر وولي مكانه يزيد بن أسيد السلمي: بكى أهل مصر بالدموع السواجم *** غداة غدا منها الأغر ابن حاتم وفيها يقول: لشتان ما بين اليزيدين في الندى *** يزيد سليمٍ والأغر ابن حاتم مع أبيات ثلاثة بعده. وكان يزيد بن حاتم جواداً سرياً مقصوداً ممدوحاً. قصده جماعة من الشعراء فأحسن جوائزهم. قال ابن عبد ربه: كتب إليه رجلٌ من العلماء يستوصله، فبعث إليه ثلاثين ألف درهم، وكتب إليه: أما بعد فقد بعثت إليك ثلاثين ألفاً لا أكثرها امتناناً، ولا أقلها تحقيراً، ولا أستثنيك عليها ثناء، ولا أقطع لك بها رجاءً. والسلام. وقال ابن خلكان: ذكر ابن جرير الطبري في تاريخه أن الخليفة أبا جعفر المنصور عزل حميد بن قحطبة عن ولاية مصر؛ فولاها نوفل بن الفرات، ثم عزله، وولى يزيد بن حاتم، وذلك في سنة ثلاث وأربعين ومائة. ثم إن المنصور عزله عن مصر في سنة اثنتين وخمسين ومائة، وجعل مكانه محمد بن سعيد. انتهى. وهذا لا يوافق ما قاله ابن عبد ربه. وقيل: تولى بعده عبد الله بن عبد الرحمن من قبل المنصور. ولم أر ما قاله ابن عبد ربه. ثم قال ابن خلكان: وقال ابن يونس في تاريخه: ولي يزيدٌ بن حاتم مصر في سنة أربع وأربعين ومائة. وزاد غيره: في منتصف ذي القعدة. ثم إن المنصور خرج إلى الشام، وإلى زيارة بيت المقدس في سنة أربع وخمسين ومائة، ومن هناك سير يزيد بن حاتم إلى إفريقية لحرب الخوارج الذين قتلوا عامله عمر بن حفص، وجهز معه خمسين ألف مقاتل، واستقر والياً، وكان وصوله إليها واستظهاره على الخوارج في سنة خمس وخمسين. ولما عقد المنصور ليزيد المهلبي على بلاد إفريقية، وليزيد السلمي المذكور على ديار مصر خرجا معاً، وكان يزيد المهلبي يقوم بكفاية الجيشين، فقال ربيعة الرقي: يزيد الخير أن يزيد قومي *** سميك لا يجود كما تجود تقود كتيبةٌ ويقود أخرى *** فترزق من تقود ومن يقود وقدم أشعب المشهور في الطمع على يزيد وهو بمصر، فجلس بمجلسه، ودعا بغلامه فساره، فقام أشعب فقبل يده، فقال له يزيد: لم فعلت هذا؟ فقال: إني رأيتك تسارر غلامك، فظننت أنك قد أمرت لي بشيء! فضحك منه وقال: ما فعلت ولكني أفعل. ووصله وأحسن إليه. وقدم عليه بمصر أبو عبيد الله محمد بن مسلم، الشهير بابن المولى، وأنشده: يا واحد العرب الذي *** أضحى وليس له نظير لو كان مثلك آخرٌ *** ما كان في الدنيا فقير فدعا يزيد بخازنه. وقال: كم في بيت مالي؟ قال: فيه من العين والورق ما مبلغه عشرون ألف دينار. فقال: ادفعها إليه. ثم قال: يا أخي، المعذرة إلى الله تعالى وإليك والله لو أن في ملكي غيرها ما ادخرته عنك. قال الطرطوشي في كتاب سراج الملوك: قال سحنون: كان يزيد بن حاتم، يقول: والله ما هبت شئياً قط هيبتي لرجلٍ ظلمته، وأنا لا أعلم، وليس له ناصر إلا الله تعالى، فيقول: حسبك الله، الله بيني وبينك! وذكر أبو سعيد السمعاني في كتاب الأنساب أن المسهر التميمي الشاعر، وفد على يزيد بن حاتم بإفريقية، فأنشده: إليك قصرنا النصف من صلواتن *** مسيرة شهرٍ ثم شهرٍ نواصله فلا نحن نخشى أن يخيب رجاؤن *** لديك ولكن أهنأ البر عاجله فأمر يزيد بوضع العطاء في جنده، وكان معه خمسون ألف مرتزق، فقال: من أحب أن يسرني فليضع لزائري هذا من عطائه درهمين. فاجتمع له مائة ألف درهم، وضم يزيد إلى ذلك مائة ألف درهم أخرى، ودفعها إليه. ولما كان يزيد والياً بإفريقية كان أخوه روح بن حاتم والياً في السند، وولي لخمسةٍ من الخلفاء: أبي العباس السفاح، والمنصور، والمهدي، والهادي، والرشيد، فقال أهل إفريقية: ما أبعد ما بين هذين الأخوين، فإن يزيد هنا، وأخاه روحاً في السند. فلما توفي يزيد بإفريقية يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة سبعين ومائة، وكان والياً فيها خمس عشرة سنة وثلاثة أشهر، فاتفق أن الرشيد عزل روحاً السند وسيره إلى موضع أخيه يزيد، فدخل إلى إفريقية في أول رجب سنة إحدى وسبعين ومائة، ولم يزل والياً عليها إلى أن توفي بها لإحدى عشرة ليلةً بقيت من شهر رمضان سنة أربع وسبعين ومائة، ودفن في قبر أخيه يزيد. فعجب الناس من هذا الاتفاق بعد ذلك التباعد. قال الصولي في كتاب الأنواع: حدثنا أبو العباس محمد الجبائي، قال: أنشدنا بكر المازني لربيعة بن ثابت الرقي، يمدح يزيد بن حاتم المهلبي ويهجو يزيد ابن أسيد السلمي: لشتان ما بين اليزيدين في الندى ***.............. البيت وبعده الأبيات الثلاثة. قال: بلغ هذا الشعر أبا الشمقمق، واسمه مروان، فقال يفضل يزيد بن مزيد الشيباني على يزيد المهلبي: لشتان ما بين اليزيدين في الندى *** إذا عد في الناس المكارم والحمد يزيد بني شيبان أكرم منهم *** وإن غضبت قيس بن عيلان والأزد انتهى. ويزيد هذا هو ابن مزيد بن زائدة، وهو ابن أخي معن بن زائدة الشيباني. وكان يزيد هذا من الأمراء المشهورين، والشجعان المعروفين، وكان والياً بأرمينية، فعزله عنها الرشيد سنة اثنتين وسبعين ومائة، ثم ولاه إياها وضم إليها أذربيجان في سنة ثلاث وثمانين. وهو من الأجواد، وقد قصده الشعراء من سائر النواحي، وأجاد صلاتهم. وقد أطال ترجمته ابن خلكان. وتوفي سنة خمس وثمانين ومائة، ورثاه أبو الشمقمق، ومسلم بن الوليد، وأبو محمد عبد الله بن أيوب التيمي المشهور، وغيرهم. ورأيت في رسائل الصاحب بن عباد رسالة مداعبة، جمع فيها نظائر هذا الشعر، وهي رسالة جيدة أحببت أن أوردها هنا وهي: أبو الفرج عباد بن المطهر أعزه الله، يزعم أن الشيخ الأمين رضي الله عنه سماه عبادا. والناس يروون: لشتان ما بين اليزيدين في الندى *** يزيد سليمٍ والأغر بن حاتم وفيهم من لا يعلم أنه لربيعة الرقي، ولا أن اليزيدين: يزيد بن حاتم المهلبي وهو الممدوح، ويزيد بن أسيد وهو المذموم. وكما لا يدري أن الشعر بلغ أبا الشمقمق فقال: وفضل عليهما يزيد بن مزيد الشيباني: لشتان ما بين اليزيدين في الندى *** إذا عد في الناس المكارم والحمد يزيد بني شيبان أكرم منهم *** وإن غضبت قيس بن عيلان والأزد وقد قال الآخر: يزيد الخير إن يزيد قومي *** سميك لا يزيد كما تزيد ويذكرني مولاي، أنه أنشد كثيراً لأبي الهول الحميري، وفي الفضل بن العباس، والبرمكي: فضلان ضمهما اسمٌ *** وشتت الأخبار كما سمعني أنشد لبشار: رأيت السهيلين استوى الجود فيهم *** على بعد ذا من ذاك في حكم حاكم سهيل بن عثمان يجود بماله *** كما جاد بالفعلى سهيل بن سالم ومن المبتذل في هذا: شتان بين محمدٍ ومحمدٍ *** حيٌّ أمات وميتٌ أحياني والمحمدان: محمد بن منصور بن زياد، ومحمد بن يحيى بن خالد. ولا أحسب عباداً هذا يعد ما قلته تفضيلاً لعباد بن العباس عليه، وإضافة له إليه، ولا أن يقول كما قال يونس بن حبيب: أشد الهجاء الهجاء بالتفضيل. وذلك كما قال صديق مولاي القريب، وابن عمته النسيب، الفرزدق بن غالب، وقد قيل له: انزل على أبي قطن قبيصة، فحسبه ابن مخازق الهلالي، فإذا هو آخر لا يحضرني نسبه وذم قراه وجواره، فقال: سرت ما سرت من ليلها ثم وافقت *** أبا قطنٍ ليس الذي لمخارق وقد تلتقي الأسماء في الناس والكنى *** كثيراً ولكن لا تلاقى الخلائق فأما التفضيل الذي أومأت إليه فقد أعجبني منه أن الحطيئة، قال: فلما أن مدحت القوم قلتم *** هجوت وهل يحل لي الهجاء فلم أشتم لكم حسباً ولكن *** حدوت بحيث يستمع الحداء حتى زعم بعضهم عن الزبرقان أن هذا أوجع له من قوله: دع المكارم لا ترحل لبغيته *** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي وعلى ذكر هذا البيت فلا أدري لم ترك ما قيل قبله. فقد سبق الأعشى، بقوله: فدعنا وقوماً إن هم عمدوا لن *** أبا ثابتٍ واجلس فإنك طاعم لست أدري، أيد الله مولاي، ما هذا الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس. وإنما حضر هذا الفتى وله حق الغربة، وأعظم به حقا، ثم حق الأدب وأكرم به فخراً، وقد خدمني طفلاً، والآن كهلاً، وهاجر إلي، فتظاهرت حرماته لدي. وهذه التسمية أيضاً لها ذمامٌ يرعى، وذمار لا ينسى، وسألني أن أخاطب مولاي في بابه، وأسيمه في مرعى جنابه، وتصور لي الأنس بمطاولة مولاي؛ وحسبتني أناجيه عن قرب كما أنا مكاتبه عن بعد، فلج الطبع والقلم، وحضرت هذه الأبيات والعبر، ومولاي ولي ما يوليه، ويختصه بالجميل فيه، فقد كان أبو عيسى النوشجاني عبد المسيح أنشد والدي: وإن ائتلاف النفس أدنى قرابةً *** لمن يدعي القربى إذا كان ظالما انتهى. وقوله: وقد قال الآخر: يزيد الخير أن يزيد قومي ***.............. البيت هذا سهوٌ منه في زعمه، أنه لغير ربيعة، والصواب أنه له كما نقلناه. وقوله: بمسعاته سعي البحور الخضارم، المسعاة: مصدر ميمي، وهو السعي. والخضارم، بالفتح: جمع خضرم بكسر الخاء وسكون الضاد المعجمتين وكسر الراء: الواسع الكثير. وقوله: بالحزائم جمع حزام، مستعار من حزم الدابة. أراد أنهم متشمرون للحرب. وقوله: هم الأنف والخرطوم، هو بالضم: الأنف. وخرطوم القوم: سيدهم. والمناسم: جمع منسم بفتح الميم، وكسر السين، وهو خف البعير. والملاحم: جمع ملحمة، بفتح الميم والحاء، وهي الوقعة العظيمة في الفتنة. والمناعيش: جمع منعاش مبالغة ناعش، كمنحار مبالغة ناحر، من نعشه ينعشه، بفتح العين فيهما نعشاً بسكونها، إذا رفعه من سقطته. والجارم: الكاسب الفقير، من جرم يجرم، كضرب يضرب. وربيعة الرقي هو أبو أسامة ربيعة بن ثابت، من موالي سليم. ويدل عليه قوله: يزيد الخير إن يزيد قومي وقال محمد بن معاوية الأسدي: هو من بني جذيمة بن مالك بن نصر بن قعين. وهو شاعر مطبوع. قال دعبل بن علي الخزاعي: قلت لمروان بن أبي حفصة: يا أبا السمط من أشعركم جماعة المحدثين؟ قال: أشعرنا أسيرنا بيتاً. قلت: من هو؟ قال: الذي يقول: لشتان ما بين اليزيدين في الندى *** يزيد سليمٍ والأغر ابن حاتم والرقي: منسوب إلى رقة، بفتح الراء وتشديد القاف، وهي مدينة، ومعناهافي اللغة كل أرض إلى جانب وادٍ، ينبسط عليها الماء أيام المد، ثم ينحسر عنها فتكون جيدة النبات، والجمع رقاق. قال ياقوت في معجم البلدان: الرقة: مدينة مشهورة على الفرات، بينها وبين حران ثلاثة أيام؛ معدودةٌ في بلاد الجزيرة، لأنها من جانب الفرات الشرقي. ويقال لها الرقة البيضا، وهي من الإقليم الرابع. ووصفها ربيعة الرقي بقوله: حبذا الرقة داراً وبلد *** بلدٌ ساكنه ممن تود ما رأينا بلدةً تعدله *** لا، ولا أخبرنا عنها أحد إنها بريةٌ بحريةٌ *** سورها بحرٌ وسورٌ في الجدد يسمع الصلصل في أشجاره *** هدهد البر ومكاءٌ غرد لم تضمن بلدةٌ ما ضمنت *** من جمالٍ في قريشٍ وأسد وكان بالجانب الغربي مدينة أخرى تعرف برقة واسط، كان بها قصران لهشام ابن عبد الملك، كانا على طريق رصافة هشام. وأسفل من الرقة بفرسخ الرقة السوداء: وهي قرية كبيرة ذات بساتين كثيرة. والرقة أيضاً: البستان المقابل للتاج من دار الخلافة ببغداد، وهي بالجانب الغربي، وهو عظيمٌ جداً جليل القدر. وأطنب ياقوت في وصفها. قد تقدم بيتان هما من شواهد النحويين، وأوردهما الزمخشري في مفصله، أما الأول فهو: شتان ما يومي على كوره *** ويوم حيان أخي جابر وهو من قصيدةٍ للأعشى ميمون، قد شرحنا بعض أبياتها في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائتين. قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكتاب: حيان وجابر ابنا عميرة من بني حنيفة، وكان حيان نديماً للأعشى. يقول: يومي على كور هذه الناقة، بالضم، وهو الرحل، ويومي مع حيان أخي جابر، مختلفان لا يستويان؛ لأن أحدهما يوم سفر وتعب؛ والثاني يوم لهو وطرب. روي أن حيان كان سيداً أفضل من أخيه جابر، فلما أضافه إلى جابر غضب، وقال: عرفتني بأخي، وجعلته أشهر مني، والله لا نادمتك أبداً! فقال له الأعشى: اضطرتني القافية فلم يعذره. انتهى. وقد غلط الأندلسي في شرح المفصل، فقال: الأخ يقال له جابر، يقول: كنا نشرب مع جابر. وهذا غلطٌ ظاهر، يلزم منه أن يكون حيان وجابر مبينين للأخ. وهذا محال. وقال الخوارزمي: يقول: كنا نشرب، ونتنعم مع جابر، وكان فيما يقال ملكاً يختص بحيان، لأنه نديمه. هذا كلامه. ونقله بعض فضلاء العجم في أبيات المفصل. وهذا غير صحيح أيضاً؛ لأنه يصف حيان، ويذكر عيشه معه؛ ولم يكن يشرب مع جابر، وإنما كان نديمه حيان. وقد وقع في شعر حسان نظير ما وقع للأعشى من تعريف المشهور بالخامل؛ قال في رثاء جعفر أخي علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: وما زال في الإسلام من آل هاشمٍ *** دعائم عزٍّ لا ترام ومفخر بهاليل منهم جعفرٌ وابن أمه *** عليٌّ ومنهم أحمد المتخير البهاليل: جمع بهلول بالضم، وهو السيد الوضيء الوجه، الطويل القامة. والمتخير: المنتخب. وقوله: منهم أحمد المتخير قد عابه بعض الناس لما أضاف أحمد المتخير إليهم، وليس هذا بعيب، لأنها ليست بإضافة تعريف، وإنما هذا تعريفٌ لهم حيث كان منهم. وإنما ظهر العيب في قول أبي نواس من قصيدة مدح بها العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر المنصور: كيف لا يدينك من أملٍ *** من رسول الله من نفره لأنه ذكر واحداً وأضاف إليه، فصار بمنزلة ما عيب على الأعشى. قال السهيلي في الروض الأنف: وجدت في رسالةٍ لمهلهل بن يموت بن المزرع قال: قال علي بن الأصغر، وكان من رواة أبي نواس، قال: لما عمل أبو نواس: أيها المنتاب عن عفره *** لست من ليلى ولا من سمره أنشدنيها، فلما بلغ قوله: من رسول الله من نفره، وقع لي أنه كلامٌ مستهجن، في غير موضعه، إذا كان حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضاف إليه ولا يضاف إلى أحد. فقلت له: أعرفت عيب هذا البيت؟ فقال: ما يعيبه إلا جاهلٌ بكلام العرب، إنما أردت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من القبيل الذي هذا الممدوح منه، أما سمعت قول حسان بن ثابت شاعر الإسلام: ومنهم أحمد المتخير؟! وأنشد البيتين. ورأيت هذه الحكاية في آخر ديوان أبي نواس، في الباب الخامس عشر، أوردها حمزة بن الحسن الأصفهاني فيما دونه من شعر أبي نواس. وأما الثاني فهو: شتان هذا والعناق والنوم *** والمشرب البارد في ظل الدوم وهو للقيط بن زرارة بن عدس بن تميم، ويكنى أبا دختنوس، وهي بنته، وأبا نهشلٍ أيضاً وأخوه حاجب بن زرارة صاحب القوس التي يقال لها: قوس حاجب. أنشده المبرد في المقتضب، وأنشده: والمشرب الدائم في الظل الدوم جعل المبرد المصدر في هذا الموضع، موضع الوصف، أي: الدائم. وأنشد غيره: في ظل الدوم على الإضافة. والدوم: شجر المقل. وهذه رواية أبي عبيدة. قال الأصمعي: قد أحال ابن الحائك، لأنه ليس بنجدٍ دومٌ، وإنما الرواية: في الظل الدوم، أي: الدائم. قال الخوارزمي: من أنكر على من روى ظل الدوم، قال: أي الظل يكون للدوم، وهو شجر المقل. ولا يخفى أن المنكر هو الأصمعي، وإنما أنكره، لأن الدوم ليس مما ينبت في بلاد الشاعر، لا لما ذكره، وأما شجر المقل فله ظلٌّ قطعاً. وقوله: شتان هذا، اسم الإشارة راجعٌ إلى الأمر الذي استصعبه الشاعر من الحال. والعناق: المعانقة. والمعنى افترق هذا، أي: ما أنا فيه من التعب، والمعانقة والنوم والراحة والماء العذب في ظل هذا الشجر، وفي الظل الدائم. وقبله: يا قوم قد حرقتموني باللوم *** ولم أقاتل عامراً قبل اليوم وقد أرخينا هنا عنان القلم، فجرى في ميدان الطروس، فأتى بما يبهج النفوس. وقد بقيت أشياء تركناها خشية السآمة، واتقاء الملامة، كالكلام على تثنية العلم في اليزيدين، فإن ابن جني قد حقق ما يتعلق به في سر الصناعة. وإن ظهر لنا موضعٌ يناسبه، أوردناه فيه إن شاء الله تعالى. وأنشد بعده: الشاهد الخامس والستون بعد الأربعمائة وهو من شواهد سيبويه: قالت له ريح الصبا: قرقار على أن الأكثرين قالوا: لم يأت اسم فعل من الرباعي إلا كلمتان، إحداهما قرقار. قال سيبويه: وأما ما جاء معدولاً عن حده من بنات الأربعة، فقوله: قالت له ريح الصبا: قرقار فإنما يريد بذلك قالت له: قرقر بالرعد يا سحاب. وكذلك عرعار وهي بمنزلة قرقار، وهي لعبة، وإنما هي من عرعرت. ونظيرها من الثلاثة. خراج، أي: اخرجوا؛ وهي لعبة أيضا. انتهى. قال الأعلم: قرقار: اسم لقولك قرقر، كما أن نزال اسم لقولك انزل. وحق هذا المعدول أن يكون في باب الثلاثي خاصة، فهو على طريق الشذوذ والخروج عن النظائر. وصف سحاباً هبت له ريح الصبا فألقحته، وهيجت رعده، فكأنه قالت له: قرقر بالرعد، أي: صوت. والقرقرة: صوت الفحل من الإبل. وقد خولف سيبويه في حمل قرقار وعرعار على العدل، لخروجهما عن الثلاثي الذي هو الباب المطرد، وجعلا حكايةً للصوت المردد، دون أن يكونا معدولين عن شيء. انتهى. أقول: المخالف هو المبرد، قال: غلط سيبويه، ولم يأت في الأربعة معدول، إنما أتى في الثلاثي وحده. وقرقار وعرعار حكاية صوت نحو: غاق غاق. قال السيرافي: والقول ما ذهب إليه سيبويه، لأن حكاية الصوت لا يخالف فيها أولٌ ثانياً، نحو: غاق غاق. وقد يصرفون الفعل من صوت المكرر، نحو: قرقرت، من قار قار، وعرعرت، من عار عار، يصيرون به إلى وزن الفعل. فلما خالف اللفظ الأول الثاني علمنا أنه محمول على قرقر وعرعر، لا على حكاية قار قار، وعار عار. انتهى. وقال أبو حيان في شرح التسهيل بعد ما ذكر أن المبرد غلطه: ومما يقوي ما ذهب إليه سيبويه وجود مثل قرقار اسم فعل في غير الأمر، وحكى ابن كيسان أنه يقال: همهام، محمحام، وهجهاج، وبحباح، أي: لم يبق شيء. وأنشد: ما كان إلا كاصطفاف الأقدام *** حتى أتيناهم فقالوا همهام انتهى. ولم يذكر صاحب الصحاح إلا همهام عن اللحياني، قال: سمعت أعرابياً من بني عامر، يقول: إذا قيل لنا: أبقي عندكم شيء؟ نقول: همهام، أي: لم يبق شيء. وانشد هذا الشعر. وزاد الصاغاني في العباب على هذه الألفاظ: دعداع، وقال: قرقار بني على الكسر، وهو معدول، والعدل في الرباعي عزيز، كعرعار وهمهام وهجهاج وبحباح ودعداع. قال أبو النجم يصف سحاباً: حتى إذا كان على مطار *** يمناه واليسرى على الثرثار قالت له ريح الصبا: قرقار *** تمري خلايا هزمٍ نثار بين مشاييع له درار *** فشق أنهاراً إلى أنهار ومطار بنجد، والثرثار ببلاد الجزيرة. وقوله: قرقار، أي: قرقر بالرعد، وصب ماءك، وهات ما عندك. ومعناه ضربته ريح الصبا فدر لها، فكأنها قالت له: صب ماءك. انتهى. ولم يورد هو من هذه الألفاظ في كتابه إلا بحباح بموحدتين ومهملتين، قال: قيل لبعض بني عامر، أبقي عندكم شيء؟ فقال: بحباح! مبنياً على الكسر، أي: لم يبق شيء. هذا كلامه. فكان ينبغي له أن لا يذكر هذه الألفاظ مع قرقار، لئلا يتوهم أنها اسم فعل أمرٍ معدول. ولم يورد الجوهري ما أورده مع أنه أصله، وإنما قال: وقولهم قرقار بني على الكسر، وهو معدول، ولم يسمع العدل من الرباعي إلا في عرعار وقرقار. فلله دره ما أحسن صنيعه! وقال الأصمعي في كتاب الإبل: قالوا قراقار وقرقار بفتح القاف كسرها، وقرقر. وأنشد البيت. وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى: {ألست بربكم قالوا بلى}، على أنه من باب التمثيل والتخييل كما في البيت. وقوله: حتى إذا كان على مطار، قال أبو عبييد البكري في معجم ما استعجم: مطار بضم الميم: وادٍ قرب الطائف. وأنشد هذه الأبيات. وقال: والثرثار بالجزيرة: ماءٌ معروف، وقيل هو قريب من تكريت. ولم تختلف الرواة في هذا الوادي أنه مطار بضم الميم. فأما مطار بفتحها فموضع في ديار بني تميم، مؤنثٌ لا ينصرف. وقال في الثناء المثلثة: الثرثار: ماء معروف قبل تكريت. وقال الهمداني: هو نهرٌ يصب من الهرماس إلى دجلة. وقال أبو حنيفة: هو بالجزيرة. واسم كان يمناه، والضمير للسحاب. وعلى مطار، يريد أنه سحاب عظيم طرفه الأيمن على مطار، وطرفه الأيسر على الثرثار. وجملة قالت له إلخ، جواب إذا. وتمري: مضارع مريت الناقة مرياً، إذا مسحت ضرعها لتدر. وفاعله ضمير الريح. والخلايا: جمع خلية بالخاء المعجمة: الناقة تعطف مع أخرى على ولدٍ واحدٍ، فتدران عليه، ويتخلى أهل البيت بواحدةٍ يحلبونها. وهزم بفتح الهاء وكسر الزاي المعجمة، يقال: غيثٌ هزم، أي: متبعق لا يستمسك. ونثار: مبالغة ناثر. وبين ظرفٌ للنثار. والمشاييع: جمع مشياع، وهو الذي يشيع السر، استعير للسحاب الساكب. ودرار صفة لمشاييع، وهو بضم الدال جمع دار. يقال: ناقة دارٌّ بدون هاء، ونوق درار مثل كافر وكفار، أي: كثيرة الدر، وهو اللبن. وقوله: فشق أنهاراً إلخ، أي: فشق ماء ذلك السحاب الأرض فصير فيها أنهاراً جارية إلى أنهار. وأنشد الجوهري البيت الشاهد من هذا الرجز مع بيتٍ آخر منه، وهو: واختلط المعروف بالإنكار وهذا هو المشهور في كتب النحو. يريد: قالت الريح للسحاب: قرقر بالرعد. ولما كان إنشاء السحاب بسبب الريح، صار كأن الريح، قالت له: قرقر بالرعد. والقرقرة: صوت فحل الإبل. والقرقرة: الهدير. وبعيرٌ قرقار الهدير، إذا كان صافي الصوت في هديره. وقوله: واختلط المعروف، أي: من صوت الرعد بالمنكر منه. وقيل: أراد أن السحاب أصاب كل مكان مما يعرف وينكر، أي: عم الأراضي كلها، ومما كان معروفاً بأن يمطر، وما كان منكراً إمطاره. قال ابن الأعرابي في نوادره: مطرت مطراً شديداً فأنكرت ما تعرف من آثار الديار ومعالمها. وقيل المعروف: المطر؛ والإنكار: البرق، والسيل والصاعقة. شبه الريح بالآمر، والسحاب بالمأمور، وقرقار بالمأمور به، لأن الريح هي التي تنشأ السحاب وتسوقه، ولهذا جعلت الريح كأنها قائلة له. كل ذلك على سبيل التمثيل. وترجمة أبي النجم العجلي، وهو راجز إسلامي، قد تقدمت في الشاهد من أوائل الكتاب. وأنشد بعده: الشاهد السادس والستون بعد الأربعمائة يدعو وليدهم بها عرعار لما تقدم قبله. وهذا عجزٌ، وصدره: متكنفي جنبي عكاظ كليهما يعني: يقيمون في كنفي جنبي عكاظ. والكنف: الناحية. وهو جمع مذكر سالم حذفت نونه للإضافة، والإضافة لفظية. وعكاظ: سوقٌ قريبة من مكة، كانت في الجاهلية تقام، وقد شرحناها فيما مضى، وهي غير مصروفة للعلمية والتأنيث. وكليهما تأكيد لقوله جنبي. والوليد: الصبي. وضمير بها لعكاظ. عرعار: لعبة للصبيان، إذا خرج الصبي من بيته ولم يجد أحداً يلاعبه رفع صوته، فقال: عرعار، أي: هلموا إلى العرعرة، فإذا سمعوا صوته، خرجوا، ولعبوا معه تلك اللعبة. قال ابن دريد في الجمهرة: سمعت عرعار الصبيان، إذا سمعت اختلاط أصواتهم. وقال في الصحاح: العرعرة: لعبة للصبيان. وعرعار بني على الكسر، وهو معدول عن عرعرة. والصحيح كما قال الأعلم عرعار معدولة عن قولهم عرعر، أي: اجتمعوا للعب، كما أن خراج اسم لعبةٍ لهم: معدول عن قولهم: اخرج. ومعنى البيت أنهم آمنون في إقامتهم هناك لعزهم وكثرتهم، وصبيانهم يلعبون بهذه اللعبة لبطرهم ورفاهيتهم. ونحوه قول حسان: أولاد جفنة حول قبر أبيهم أي: لا يرحلون عنه لعزهم وغناهم، بخلاف غيرهم، لابد له من الرحلة للانتجاع. والبيت آخر أبياتٍ تسعة للنابغة الذبياني، حذر بها عمرو بن المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة من أعدائه، وهم قوم النابغة. أخبره بأنهم نزلوا بعكاظ، وهم كثيرون، ينتظرون وقوع الربيع فيرعونه ويحاربونه. وأولها: من مبلغٌ عمرو بن هند آيةً *** ومن النصيحة كثرة الإنذار لا أعرفنك عارضاً لرماحن *** في جف تغلب وارد الأمرار الجف بضم الجيم: العدد الكثير، والجماعة من الناس، ومنه قيل لبكر وتميم: الجفان؛ لكثرتهما. وتغلب: أبو قبيلة عظيمة، وهو تغلب بن وائل. والأمرار بفتح الهمزة، قال صاحب الصحاح: هي مياهٌ في البادية مرة. وأنشد هذا البيت. ومعلقون على الجياد حليه *** حتى تصوب سماؤهم بقطار الحلي، بفتح المهملة وكسر اللام: ما تعتلفه الخيل، إذا يبس؛ وإذا كان رطباً أخضر فهو نصي. وقطار، بالكسر: جمع قطر. إلى أن قال: فيهم بنات العسجدي ولاحقٍ *** ورقٌ مراكلها من المضمار عسجد ولاحق: فحلان من خيل غني بن أعصر. والمركل كجعفر: موضع عقب الفارس. يقول: تضمر خيلهم بالركوب، فتقرع أعقابهم مواضع المراكل، فيتحات شعرها، ثم ينبت بعد ذلك شعر أسود. ولهذا قال: ورق، لأنه إذا نبت، خرج يضرب إلى الغبرة، وهي الورقة. تشلى توابعها إلى ألافه *** خبب السباع الوله الأبكار متكنفي جنبي عكاظ كليهم ***.............البيت الإشلاء: الدعاء؛ أشليته: دعوته. يعني يدعي توابع من أولادها، ومن خيل أخرى إلى ما ألفته. والوله: التي قد ولهت إلى أولادها. والأبكار: التي وضعت بطناً، وتكون التي لم تلد قط. وقوله: متكنفي حال من أصحاب هذه الخيل. والإضافة لفظية، ولهذا صحت الحال. ولما بلغت هذه الأبيات عمرو بن هند، قال: أبلغ زياداً أن قومك حاربو *** فانهض إلينا إن قدرت بجار نجزيك إنذاراً بما أنذرتن *** وذكرت عطف الود والإصهار وزيادٌ: اسم النابغة. وله قصيدةٌ على هذا الوزن والروي مطلعها: نبئت زرعة والسفاهة كاسمه *** يهدي إلي غرائب الأشعار وزرعة هو ابن عمرو بن خويلد أخي يزيد بن عمرو بن الصعق الكلابي، كان هجاء للنابغة، فلما بلغ هجاؤه النابغة، قال هذه القصيدة يتوعده بالهجاء، ومحاربته إياه مع قومه، ثم وصف قومه وأحلافهم، إلى أن قال: جمعٌ يظل به الفضاء معضل *** يذر الإكام كأنهن صحاري معضل اسم فاعل، يعني غاصاً ضيقاً. يقال: قد عضلت المرأة بولدها تعضيلاً، إذا تعسر عليها، فنشب ولم يخرج. وليس في هذه القصيدة البيت الشاهد. وزعم ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل وتبعه جماعة، أنه منها. وأورد معه قوله: جمعٌ يظل به الفضاء معضلاً البيت مع أبيات أخر، وقال: مدح بهذه القصيدة بني غاضرة من بني أسد. وليس الأمر كذلك كما بينا. وسيأتي شرح بعض هذه القصيدة بعد شاهدٍ واحد إن شاء الله تعالى. وترجمة النابغة الذبياني قد تقدمت في الشاهد الرابع بعد المائة. وأنشد بعده الشاهد السابع والستون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س: ولأنت أشجع من أسامة إذ *** دعيت نزال ولج في الذعر على أن عبد القادر استدل على تأنيث فعال الأمري بما هنا، فإن نزال: نائب فاعل دعيت، ولولا أنها مؤنثة ما ألحق علامة التأنيث للفعل المسند إليها. وفيه ما أورده الشارح المحقق. وعبد القاهر مسبوق بما قاله. قال سيبويه، في باب ما جاء معدولاً عن حده من المؤنث: ويقال: نزال، أي: أنزل. وأنشد البيت ثم قال: فالحد في جميع هذا: افعل، ولكنه معدول عن حده، وحرك آخره لأنه لا يكون بعد الألف حرف ساكن، وحرك بالكسر لأن الكسر مما يؤنث به. وإنما الكسرة من الياء. انتهى. وقال ابن السراج في الأصول: اعلم أنه لا يبنى على مثال فعال من هذا الباب على الكسر إلا وهو مؤنث معرفة معدول عن جهته، وإنما بني على الكسر لأن الكسر مما يؤنث به، تقول للمرأة: أنت فعلت، وإنك فاعلة. وكان أصل هذا إذا أردت به الأمر السكون، فحركته لالتقاء الساكنين، فجعلت الحركة الكسرة للتأنيث، وذلك قولك: نزالٍ وتراكٍ، ومعناه انزل واترك، فهما معدولان عن المتاركة والمنازلة. قال الشاعر تصديقاً لذلك: ................ إذ *** دعيت نزال ولج في الذعر فقال: دعيت، لما ذكرت لك من التأنيث. انتهى. وهكذا قال خدمة كتاب سيبويه. وشراح شواهد الجمل وغيرهم. قال الأعلم: الشاهد في قوله: نزال، وهو اسم لقوله انزل، ودل على أنه اسمٌ مؤنث دخول التاء في فعله، وهو دعيت. وإنما أخبر عنها على طريق الحكاية، وإلا فالفعل، وما كان اسماً له، لا ينبغي أن يخبر عنه. انتهى. ومثله في كون نزال أريد به لفظه فجعل نائب فاعل، قول زيد الخيل الصحابي: وقد علمت سلامة أن سيفي *** كريهٌ كلما دعيت نزال وقد وقع مفعولاً به في قول ربيعة بن مقروم: فدعوا نزال فكنت أول نازلٍ *** وعلام أركبه إذا لم أنزل ومعنى دعاء الأبطال بعضهم بعضاً بهذه الكلمة: أن الحرب إذا اشتدت بهم، وتزاحموا، فلم يمكنهم التطاعن بالرماح، تداعوا بالنزول عن الخيل، والتضارب بالسيوف. ومعنى لج في الذعر: تتابع الناس في الفزع، وهو من اللجاج في الشيء، وهو التمادي فيه. وقد تقدم شرح النزال مفصلاً في الشاهد الحادي والأربعين بعد الثلثمائة. والشارح المحقق قد تبع صاحب الصحاح في روايته البيت كذا في مادة أسم، وهو مركب من بيتين، فإن البيت الذي فيه دعيت نزال، وهو لزهير بن أبي سلمى، صدره كذا: ولنعم حشو الدرع أنت إذ *** دعيت نزال ولج في الذعر وقوله: ولأنت أشجع من أسامة إذ إنما هو صدرٌ من بيت للمسيب بن علس، وعجزه: نقع الصراخ ولج في الذعر وهذا ليس فيه دعيت نزال. والبيت الشاهد كما ذكرناه هو رواية سيبويه وسائر النحويين. وبيت المسيب ابن علس على ما رتبناه هو رواية الجاحظ في كتاب البيان والتبيين. وقد رأيت البيتين في ديوانيهما كذلك. أما بيت زهير فهو من قصيدةٍ مدح بها هرم بن سنانٍ المري. وهذه أبياتٌ بعد ثلاثة أبيات من أولها: دع ذا وعد القول في هرمٍ *** خير البداة وسيد الحضر تالله قد علمت سراة بني *** ذبيان عام الحبس والأصر إن نعم معترك الجياع إذ *** خب السفير وسابئ الخمر ولنعم حشو الدرع أنت إذ *** دعيت نزال ولج في الذعر ولنعم مأوى القوم قد علمو *** إن عضهم جلٌّ من الأمر ولنعم كافي من كفيت ومن *** تحمل له تحمل على ظهر حامي الذمار على محافظة ال *** جلى أمين مغيب الصدر حدبٌ على المولى الضريك إذ *** نابت عليه نوائب الدهر عظمت دسيعته وفضله *** جز النواصي من بني بدر أيام ذبيانٌ مراغمةٌ *** في حربها ودماؤها تجري ومرهق النيران يطعم في ال *** لأواء غير ملعن القدر ويقيك ما وقي الأكارم من *** حوبٍ تسب به ومن غدر وإذا برزت به برزت إلى *** ضافي الخليقة طيب الخبر متصرفٍ للمجد معترفٍ *** للنائبات يراح للذكر جلدٍ يحث على الجميع إذ *** كره الظنون جوامع الأمر ولأنت تفري ما خلقت وبع *** ض القوم يخلق ثم لا يفري ولأنت أشجع حين تتجه ال *** أبطال من ليثٍ أبي أجر يصطاد أحدان الرجال فم *** تنفك أجريه على ذخر والستر دون الفاحشات وم *** يلقاك دون الخير من ستر أثني عليك بما علمت وم *** أسلفت في النجدات والذكر قوله: وعد القول في هرم وهو بفتح الهاء وكسر الراء، أحد الأجواد في الجاهلية من بني مرة. أي: دع ما أنت فيه من وصف الديار، وعد القول، أي: اصرفه، إلى مدح هرم. والبداة: جمع باد. والحضر: جمع حاضر، كصحب جمع صاحب. وقوله: تالله قد علمت إلخ، السراة: جمع سريٍّ، وهو الكريم. والحبس والأصر والأزل، بفتح الهمزة واحد، وهو أن يحدق العدو بالقوم، فيحبسوا أموالهم، ولا يخرجوها إلى الرعي، خشية أن يغار عليها. والأصر: الضيق أيضاً وسوء الحال. وقوله: أن نعم معترك إلخ، أن بفتح الهمزة مخففة من الثقيلة مؤولة مع مدخولها بمصدر، سادة مسد مفعولي علمت. ومترك: فاعل نعم، والمخصوص محذوف، وهو اسم مكان، أي: نعم موضع ازدحام الفقراء أنت. وأصله في الحرب، فاستعاره هنا. وخب السفير، أي: أسرع، وطار مع الريح. والسفير: ما جف من الورق وسقط، وذلك في شدة البرد وقحط الزمان. وسابئ: معطوفٌ على مترك، وهو مهموز الآخر، اسم فاعل من سبأ الخمر، إذا اشتراها، وإنما وصفه بسباء الخمر في شدة الزمان، ليدل على كرمه وتناهي جوده، فلا تمنعه شدة الزمان من إنفاق ماله. وقوله: ولنعم حشو الدرع إلخ، جعل لابس الدرع حشواً لها لاشتمالها عليه، كما يشتمل الإناء على ما فيه. وهو العامل في إذا، لأنه بمعنى لابس، وقيل: متعلق بنعم لما فيه من معنى الثناء كما فيما قبله. والجل، بالضم: الحادث العظيم كالجلى. وقوله: على ظهر، أي: ظهر حمولٍ قوي. والذمار: ما يجب عليه أن يحميه من حرمه. والجلى: النائبة الجليلة وجمعها جلل، وقيل هنا بمعنى: جماعة العشيرة. وقوله: أمين مغيب الصدر، أي: لا يضمر إلا الجميل، ولا ينطوي إلا على الوفاء والخير وحفظ السر، فهو مأمونٌ على ما غاب في صدره. والحدب: المتعطف المشفق. والمولى: ابن العم. والضريك: الفقير والمحتاج. والدسيعة: العطية الجزيلة. وجز الناصية تكون في الأسير، إذا أنعم عليه وأطلق جزت ناصيته وأخذت للافتخار. وراغمهم: نابذهم وهجرهم وعاداهم. وقوله: ومرهق النيران، أي: تغشى ناره؛ يقال: رهقت الرجل، إذا غشيته وأحطت به؛ والمشدد للتكثير. يصف أنه يوقد النار بالليل للطبخ وإطعام الناس، وليعشو إليها الضيف والغريب. وكثرة النيران، للإخبار عن سعة معروفة. والأواء: شدة الزمان والقحط. وقوله: غير ملعن القدر، أي: لا يؤكل ما فيها دون الضيف، والجار، واليتيم، والمسكين، فهو محمود القدر، لا مذمومها. وأوقع اللعن على القدر مجازاً، وهو يريد صاحبها. وقوله: ويقيك ما وقي الأكارم إلخ، وقي بالبناء للمفعول. والحوب: الإثم، أي: إن الأكارم وقوا أن يسبوا فيقيك ذلك أنت أيضاً، أي: إنه لا يغدر، ولا يسب، فبأتي بإثم. وروي: ما وقى الأكارم بالبناء للفاعل ونصب الأكارم. وقوله: وإذا برزت به، أي: برزت إليه، يعني: إذا صرت إليه صرت إلى رجل واسع الخلق طيب الخبر. وقوله: متصرف للمجد إلخ، أي: يتصرف في كل باب من الخير، لاكتساب المجد. والمعترف: الصابر، أي: يصبر لما نابه من الأمر، ويحتمله. وقوله: يراح، أي: يخش ويخف ويطرب، لأن يفعل فعلاً كريماً يذكر به، ويمدح من أجله. وقوله: جلد يحث إلخ، أي: قوي العزم، مجتهد فيما ينفع العشيرة من التآلف والاجتماع، فهو يحث على ذلك ويدعو إليه، إذا كره الظنون الاجتماع والتآلف، لما يلزمه عند ذلك، من المشاركة والمواساة بماله ونفسه. والظنون: الذي لا يوثق بما عنده، لما علم من قلة خيره. وجوامع الأمر: ما يجمع الناس في شأنهم. وقوله: ولأنت تفري إلخ، هذا مثلٌ ضربه. والخالق: الذي يقدر الأديم ويهيئه لأن يقطعه ويخرزه. والفري: القطع. والمعنى: إنك إذا تهيأت لأمرٍ مضيت له، وأنفذته ولم تعجز عنه، وبعض القوم يقدر الأمر ويتهيأ له، ثم لا يعزم عليه ولا يمضيه، عجزاً وضعف همة. قال ابن قتيبة في أدب الكتاب: فرى الأديم: قطعه على جهة الإصلاح، وأفراه: قطعه على جهة الإفساد. وقال ابن السيد: هذا قول جمهور اللغويين، وقد وجدنا فرى مستعملاً في القطع على جهة الإفساد، قال الشاعر: فرى نائبات الدهر بيني وبينه *** وصرف الليالي مثل ما فري البرد وحكى أبو عبيد في الغريب المصنف عن الأصمعي: أفريت: شققت؛ وفريت بمعنًى؛ وفريت إذا كنت تقطع للإصلاح. انتهى. وقوله: ولأنت أشجع إلخ، تتجه: يواجه بعضهم بعضاً في الحرب. والأجر ي جمع جرو مثل الجيم، وهو ولد الأسد وغيره. وإنما جعل الليث ذا أولاد، لأن ذلك أجراً له وأعدى على ما يريده، لاحتياج أولاده إلى ما تتغذى به. وقوله: يصطاد أحدان إلخ، جمع واحد، والهمزة بدل من واو، أي: يصطاد الرجال واحداً بعد الآخر، فلا يزال عنده ما يدخره لما بعد اليوم. ومثله في وصف جروي أسدٍ: ما مر يومٌ إلا وعندهم *** لحم رجالٍ ويولغان دما وقوله: والستر دون الفاحشات إلخ، أي: بينه وبين الفاحشات سترٌ من الحياء، وتقى الله، ولا ستر بينه وبين الخير، يحجبه عنه. وحكي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سمعه، قال: ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: أثني عليك إلخ، أي: بما علمت من أمرك، وشاهدت من جودك. وما أسلفت، أي: ما قدمت في الشدائد. والنجدة: الشدة والبأس. والذكر: ما يذكر به من الفضل. وترجمة زهير بن أبي سلمى تقدمت في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة. وأما بيت المسيب بن علس فهو من قصيدةٍ أيضاً، مدح بها قيس بن معديكرب الكندي، تقدم شرح بعضها في الشاهد الثاني بعد المائتين، ورويت لابن أخته الأعشى ميمون، وهي ثابتة في ديوانه أيضاً، فيكون المسيب بن علس خال الأعشى. وهذه أبياتٌ منها: وإليك أعملت المطية من *** سهل العراق وأنت بالقفر أنت الرئيس إذا هم نزلو *** وتوجهوا كالأسد والنمر وفارس اليحموم يتبعهم *** كالطلق يتبع ليلة البهر ولأنت أشجع من أسامة إذ *** نقع الصراخ ولج في الذعر وأنت أجود بالعطاء من ال *** ريان لما ضن بالقطر ولأنت أحيا من مخباة *** عذراء تقطن جانب الكسر ولأنت أبين حين تنطق من *** لقمان لما عي بالأمر لو كنت من شيءٍ سوى بشرٍ *** كنت المنور ليلة القدر وفارس اليحموم، هو النعمان بن المنذر ملك الحيرة. واليحموم: اسم فرسه. والطلق: الليلة التي لا حر فيها ولا برد. وليلة البهر: ليلة البدر حين بهر النجوم. وفي القاموس: أسامة بالضم معرفة: علم الأسد. والأسامة لغة فيه. والصراخ، بالضم: الصوت الشديد، يكون للاستغاثة وغيرها. والريان، قال ياقوت في معجم البلدان: جبل ببلاد طيء، لا يزال يسيل منه الماء، وضم، بالبناء للمفعول، أي: بخل. وتقطن بالقاف، أي: تسكن. والكسر، بكسر الكاف: الشقة السفلى من الخباء. ولقمان، هو كما قال الجاحظ في كتاب البيان والتبيين: هو لقمان ابن عاد الأكبر، وكانت العرب تعظم شأنه في النباهة والقدر، وفي العلم وفي الحكم، وفي اللسان، وفي الحلم. وهو غير لقمان المذكور في القرآن. وترجمة المسيب بن علس تقدمت في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة. وأنشد بعده: الشاهد الثامن والستون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س: أنا اقتسمنا خطتينا بينن *** فحملت برة واحتملت فجار على أن فجار مصدر معرفة مؤنث. قال سيبويه: وأما ما جاء اسماً للمصدر، كقول النابغة: فحملت برة واحتملت فجار فجار معدولة عن الفجرة. وقال الشاعر: فقال: امكثي حتى يسار لعلن *** نحج معاً قالت: أعاماً وقابله فهي معدولة عن الميسرة، فأجرى هذا الباب مجرى الذي قبله، لأنه عدل كما عدل، ولأنه مؤنث بمنزلته. اه. قال الأعلم: الشاهد في فجار، وهو اسم للفجرة معدول عن مؤنث، كأنه عدل عن الفجرة بعد أن سمي بها الفجور، كما سمي البر: برة، ولو عدلها لقال: برار كما قال فجار. اه. قال الشارح المحقق: لم يقم لي إلى الآن دليلٌ قاطع على تعريفه ولا تأنيثه إلى آخر ما حققه، وأجاد فيه البحث ودققه. ومثله لناظر الجيش في شرح التسهيل، قال: وما ذكره المصنف من أن ما كان من أسماء الأفعال على فعال محكوم بتأنيثه، كأنه أمر مجمع عليه من النحاة. وهو أمر يؤخذ تقليداً. وقال في باب منع الصرف أيضاً: وأما قوله وكلها معدول عن مؤنث فهو أمر كالمجمع عليه عند النحاة، ولكن يتعين التعرض لبيان المعدول عنه في كل من الأربعة المذكورة. أما الصفة المختصة بالنداء، فالظاهر أن فساق معدولٌ عن فاسقه؛ لقصد المبالغة في الذم. وأما الصفة الجارية مجرى الأعلام، فذكروا أنها معدولة عن صفات غلبت فاستعملت أسماء، كنابغة في قوله: ونابغة الجعدي في الرمل بيته فنابغة: نعتٌ في الأصل إلا أنه غلب حتى صار اسماً. قالوا: وكذلك لا يجوز أن تتبع موصوفاً. ولا يخفى أن الغلبة لا تكون عدلاً لأن العدل عبارة عن تبديل لفظ بلفظ للدلالة على المبالغة في ذلك المعنى الذي أفاده اللفظ المعدول عنه. ولم يتحقق لي وجه العدل في هذه المسألة. وأما المصدر فقالوا: هو معدول عن مصدر مؤنث معرفة، وإن كانوا لم يستعملوا في كلامهم ذلك المصدر للمعرفة المؤنثة الذي عدل عنه. ويفهم من هذا أنه عدلٌ تقديريٌّ، لا تحقيقي. وأما الحال، فقال: إنه عدلٌ عن مصدر مؤنث معرفة. وقد فسر سيبويه بداد، بقوله: بداداً. وليس هذا بعدلٍ لأنه نكرة، وإنما هي معدولة عن البدة والمبادة، وهذا أيضا عدل تقديري. وأما اسم الفعل فلم يذكروا ماذا عدل منه، ولم يتحقق لي وجه العدل فيه. والعجب أنهم يجعلون اسم الفعل أصلاً في العدل والتأنيث. وما برحت أتطلب بيان ما عدل عنه نزال وبيان كونه مؤنثاً، ولم أقف من كلامهم على ما يوضح لي ذلك. والذي يظهر أن القول بالعدل والتأنيث في نزال ليس على وجه التحقيق، بل على وجه التقدير. وقال صاحب الإفصاح: نزال عند سيبويه علمٌ على المعنى كسبحان، ومثله حلاق وجماد، في اسم المنية، والسنة المجدبة. وقد يكون هذا العدل علماً على الشخص كحذام. ويرى سيبويه أن هذه الأشياء بنيت حملاً على نزال، ونزال بني حملاً على الفعل. اه. ويظهر من كلامه أن العدل في هذه الأمور إنما هو تقديريٌّ. وأما قوله إن نزال عند سيبويه علم، فلم يتضح لي كونه علماً. انتهى ما أورده ناظر الجيش باختصار. واستدل ابن السيد في شرح أبيات الجمل للتأنيث بشيئين ضعيفين، قال: أراد بفجار الغدرة. وتسمى الغدرة فجار كما تسمى المرأة حذام. فإن قلت: لما لم جعلته للغدرة المؤنثة دون أن تجعله اسماً للغدر، وما دليلك على هذه الدعوى؟ قلنا: على ذلك دليلان: أحدهما: أن فعال المعدول لا يعدل إلا عن مؤنث، ألا تراه قد قال دعيت نزال، وليس هذا في بيت زهير وحده، بل هو مطرد في فعال حيثما وقعت. والثاني: أن النابغة سمى الوفاء برة، وهو يريد البر، وكذلك سمى الغدر فجار، وهو يريد الفجور. انتهى. وقال اللخمي: فجار اسمٌ للفجور، وهو معدول عن مؤنث كأنه عدل عن الفجرة، وهو مصدر، بعد أن سمى بها الفجور كما سمى البر: برة. هذا مذهب سيبويه، وحكى غيره أنه معدول عن صفة غالبة، ودليل ذلك أنه قال: فحملت برة واحتملت فجار فجعلها نقيض برة، وبرة صفة، كأنه قال: حملت الخصلة البرة، وحملت الخصلة الفاجرة، كما تقول: الخصلة القبيحة والحسنة، فهما صفتان. اه. وهذا الذي حكاه هو مذهب السيرافي، كما نقله الشارح عنه. وزاد ابن جني في الطنبور نغمة، فزعم أن فجار معدولةٌ عن فجرة علماً بدون أل، قال في باب التفسير على المعنى دون اللفظ من كتاب الخصائص: اعلم أن هذا موضعٌ قد أتعب كثيراً من الناس واستهواهم، ودعاهم من سوء الرأي، وفساد الاعتقاد إلى ما مذلوا به، وتتايعوا فيه حتى إن أكثر ما ترى من هذه الآراء المختلفة والأقوال المستشنعة، إنما دعا إليها القائلين بها تعلقهم بظواهر هذه الأماكن دون أن يبحثوا عن سر معانيها ومعاقد أغراضها. فمن ذلك قول سيبويه في بيت النابغة: إن فجار معدولةٌ عن الفجرة، وإنما غرضه إنها معدولة عن فجرة علماً معرفة، على ذا يدل هذا الموضع. ويقويه ورود برة معه في البيت، وهي كما ترى علم، لكنه فسر على المعنى دون اللفظ. وسوغه أنه لما أراد تعريف الكلمة المعدولة عنها مثل ذلك بما يعرف باللام، لأنه لفظ معتاد، وترك لفظ فجرة لأنه لا يعتاد ذلك علماً، وإنما يعتاد نكرة من جنسها، نحو: فجرت فجرةً، كقولك: تجرت تجرةً. ولو عدلت برة على هذا الحد، لوجب أن يقال: برار كفجار. اه. وقد أخذ الشاطبي هذا الكلام فزاده تنويراً في شرح الألفية عند قول ناظمها: ومثله برة للمبره *** كذا فجار علم للفجره قال: ومن علم الجنس للمعنى: فجار، وهو علم الفجور ومعدول عن فجرة علماً، لا عن الفجرة، فإنه من باب حذام المعدول عن علم مثله. فقول سيبويه: إن فجار معدولٌ عن الفجرة تجوز. كذا قال ابن جني والمحققون. وأل في الفجرة في كلام الناظم لا إشكال فيها، إذ لم يرد العلم كما أراد سيبويه، وإنما مراده الجنس الذي هو مطلق الفجور. ومثل هذين المثالين فينة في قولهم: ما ألقاه إلا فينةً، أي: في الندرة. قال ابن جني: هو علم لهذا المعنى. ومنه حماد للمحمدة، ويسار للميسرة. وأشار الناظم بمثالي برة وفجار إلى بيت النابغة. وفي عبارته شيءٌ، وهو أن الفجرة هي المرة الواحدة من الفجور، ومعلوم أن فجار ليس علماً لجنس المرة الواحدة، فإن أهل اللغة لم ينقلوا إلا أنه علم للفجور المطلق، ولا يصح أن يريد أن فجار اسم جنس للفجرة المعدول هو عنه، إذ لم يقولوا ذلك، ولا يصح في نفسه. فثبت أن قوله: فجار علم للفجرة، مشكل. والجواب أن إتيانه بالفجرة مقصودٌ له، وذلك أن القاعدة في فعال أنه مؤنث ومعدولٌ عن مؤنث. وقد بين ذلك سيبويه في أبواب ما لا ينصرف غاية البيان، حتى إنه قدر ما لم يستعمل مؤنثاً كأنه استعمل كذلك، ثم جعل فعال معدولاً عنه. وإذا كان كذلك فالاسم المعدول عنه، وهو العلم المقدر اسم لجنسٍ مؤنث، إذ لا بد من مطابقته له في التأنيث، ولذلك قال: ومثله برة للمبرة، ولم يقل للبر ونحوه. والحاصل أن الناظم نبه بمثال الفجرة على أن فعال علم لاسم الجنس المؤنث، فإن كان مستعملاً فذاك، وإلا قدر له اسم مؤنث. وهذه قاعدةٌ محل بيانها باب ما لا ينصرف. انتهى كلامه باختصار يسير. وهذا كله لا يدفع ما أورده الشارح المحقق. والبيت من قصيدةٍ للنابغة الذبياني هدد بها زرعة بن عمرو الكلابي، وكان زرارة لقي النابغة بعكاظ، وأشار عليه أن يشير على قومه أن يغدروا بني أسد وينقضوا حلفهم، فأبى عليه النابغة وجعل خطته الذي التزمها من الوفاء برة، وخطة زرعة لما دعاه إليه من الغدر ونقض الحلف فاجرة. وبلغ النابغة أن زرعة هجاه وتوعده فقال النابغة، وهذا أول القصيدة عند أبي عمرو الشيباني والأصمعي: نبأت زرعة والسفاهة كاسمه *** يهدي إلي غرائب الأشعار فحلفت يا زرعة بن عمرٍو إنني *** مما يشق على العدو ضراري أعلمت يوم عكاظ حين لقيتني *** تحت الغبار فما خططت غباري أنا اقتسمنا خطتينا بينن *** فحملت برة واحتملت فجار فلتأتينك قصائدٌ وليدفعن *** ألفٌ إليك قوادم الأكوار رهط ابن كوزٍ محقبو أدراعهم *** فيهم ورهط ربيعة بن حذار ولرهط حرابٍ وقدٍّ سورةٌ *** في المجد ليس غرابها بمطار وبنو قعينٍ لا محالة أنهم *** آتوك غير مقلمي الأظافر سهكين من صدأ الحديد كأنهم *** تحت السنور جنة البقار وبنو سواءة زائروك بوفدهم *** جيشٌ يقودهم أبو المظفار وبنو جذيمة حي صدقٍ سادةٌ *** غلبوا على خبتٍ إلى تعشار والقوم غاضرة الذين تحملو *** بلوائهم سيراً لدار قرار جمعٌ يظل به الفضاء معضل *** يذر الإكام كأنهن صحار وقال في آخرها: حولي بنو دودان لا يعصونني *** وبنو بغيضٍ كلهم أنصاري وقوله: نبئت زرعة إلخ، بالبناء للمفعول والتاء نائب فاعل، وزرعة مفعول ثان، وجملة: يهدي إلخ، في موضع المفعول الثالث. وقوله: والسفاهة كاسمها اعتراض، أي: فعل السفاهة قبيح، وإنما قال هذا، لأن السفاهة كما تنكرها القلوب والعقول، تمج الآذان اسمها. فإن قلت: ما اسم السفاهة حتى قال: كاسمها؟ قلت: أراد ما سمي سفاهة. أي: المسمى بهذا الاسم قبيحٌ، كما أن الاسم الذي هو السفه قبيح، إلا أنه لما لم يجد إلى العبارة عن الذات طريقاً إلا باسمه، قال: والسفاهة كاسمها. كذا قال الإمام المرزوقي. وقوله: يهدي إلي غرائب الأشعار إلخ، يعني أنه غير مشهور، فالشعر من قبله غريب، إذ ليس من أربابه. قوله: فحلفت يا زرع إلخ، جملة: إنني إلخ، جواب القسم، والضرار، بالكسر: الدنو من الشيء واللصوق به يقول: أنا قويٌّ عزيز فالعدو يكره مجاورتي له. وقوله: أعلمت إلخ، الاستفهام تقريريٌّ. وروى: أنسيت يوم وخططت بالخاء المعجمة: شققت، يقال: ما خط غباره، أي: لم يدن منه ولم يتعلق به. وقوله: أنا اقتسمنا إلخ، بفتح همزة أنا لأنها مع معموليها في تأويل مصدر سادٍّ مسد مفعولي علمت، هذه وراية أبي عمرو. وروى الأصمعي: يوم اختلفنا خطتينا، وابن الأعرابي: يوم احتملنا. يقول: بررت أنا وفجرت أنت. قال شارح الديوان: قوله فجار يعني خطة فاجرة، خرج مخرج حذام ورقاش. والخطة، بالضم: الحالة والخصلة. قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل: وقال في البر حملت وفي الفجور احتملت لأن العرب إذا استعملت فعل وافتعل بزيادة التاء كان الذي لا زيادة فيه يصلح للقليل والكثير، والذي فيه الزيادة للكثير خاصة، نحو: قدر واقتدر، وكسب واكتسب. فأراد أن يهجو بكثرة غدره وإيثاره للفجور، فذكر اللفظة التي يراد بها الكثير ليكون أبلغ في الهجو. ولو قال: حملت فجار لأمكن أن لا يكون غدر إلا مرة واحدة. وأما الأفعال التي لا تستعمل إلا بالتاء فخارجة عن هذا الحكم، لأنها تصلح لما قل ولما كثر، كقولك: استويت على الشيء، واجتويت البلد، إذا كرهته، واكتريت الدار. فهذا لا يقال فيه إنه للتكثير خاصة، لأنه لم يستعمل غير مزيد. وقوله: فلتأتينك قصائد إلخ، هذا شروعٌ في تهديد زرعة. يقول: والله لأغيرن عليكم بقصائد الهجو، ورجال الحرب. وروي بنصب ألف ورفع قوادم. يقول: لتركبن إليك نجائب تدفع إليك جيشاً. والكور، بالضم: الرحل؛ وقادمته: العودان اللذان يجلس بينهما الراكب. وقوله: رهط ابن كوز إلخ، أي: هم رهط إلخ. وابن كوز وربيعة بن حذار بضم الحاء المهملة وكسرها، هما من بني أسد. وقوله: محقبو أدراعهم، أي: يجعلونها خلفهم في موضع الحقائب. والحقيبة: خرج صغيرٌ يربطه الراكب خلفه. وقوله: ولرهط حرابٍ وقد إلخ، الأول بفتح الحاء وتشديد الراء المهملتين، والثاني بفتح القاف وتشديد الدال. قال ابن الكلبي وابن الأعرابي: هما من بني والبة ابن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد. والسورة، بالضم: الفضيلة. وهذا البيت استشهد به الزمخشري والبيضاوي، عند قوله تعالى: {فأتوا بسورةٍ من مثله}، على أن السورة: الرتبة. وقوله: ليس غرابها بمطار كناية عن كثرة الرهط، ودوام العز لهما. وإذا وصف المكان بالخصب وكثرة الشجر، قيل: لا يطار غرابه. يريد أن يقع في المكان فيجد ما يشبع، ولا يحتاج أن يتحول عنه. فجعله مثلاً للمجد، أي: مجدهم ليس بمنقلع. وقال أبو عبيدة: هو في مكان مرتفع، لا يؤذى من العز. أراد أنهم أعزاء منعاء لا يوصل إليهم. وتخصيص الغراب لأنه المثل في الحذر، فإنه يطير بأدنى ريبةٍ. وقوله: وبنو قعين إلخ، هم من بني أسد. وقوله: غير مقلمي إلخ، يريد إنهم آتوك غير مسالمين لك، وعداوتهم ظاهرة، وإنما يأتونك للمحاربة. وآتوك: جمع آتٍ. وقوله: سهكين من صدأ إلخ، متلبسين برائحة الحديد المصدئ. يعني أن السلاح يصدأ عليهم لطول لبسهم إياه. والسهكة: رائحة الحديد المصدئ. والسنور: الدروع، وقيل: السلاح كله. والبقار، بالموحدة والقاف المشددة: موضعٌ برمل عالج، قريبٌ من جبلي طيئ تسكنه الجن. يقول: كأنهم جنٌّ في شجاعتهم. وقوله: وبنو سواءة، بضم السين والمد، هم من بني أسد أيضاً. وأبو المظفار هو مالك بن عوف من بني أسد. وقوله: وبنو جذيمة إلخ، بفتح الجيم وكسر الذال المعجمة، هو من بني أسد أيضاً. وجذيمة هو ابن مالك بن نصر بن قعين. وخبت بفتح المعجمة وسكون الموحدة: اسم ماء في ديار كندة. وتعشار، بكسر المثناة الفوقية وبعد المهملة شين معجمة: موضعٌ في بلاد بني تميم، وقيل: جبلٌ في بني ضبة، وقال الخليل: ماءٌ لبني ضبة في نجد. كذا في معجم ما استعجم. وقوله: والقوم غاضرة إلخ، غاضرة بإعجام الأولين: قومٌ من بني أسد أيضا. يقول: لم يتحملوا ليهربوا، إنما أرادوا الإقامة والثبات في منازلهم. وقوله: جمع يظل به إلخ، معضلاً بفتح الضاد المشددة. غاصاً ضيقاً. وقوله: حولي بنو دودان، هم من بني أسد، وبنو بغيض هم رهط النابغة. وترجمة النابغة تقدمت في الشاهد الرابع بعد المائة. وأما البيت الذي أورده سيبويه بعد البيت الشاهد فقد أورده غفلاً غير منسوب، ولم يعزه شراح أبياته، وقال ابن السيد، لا أعرف قائله. وعينه ابن هشام اللخمي، فقال: هو لحميدٍ الأرقط، يقول لزوجه وكانت قد سألته الحج، وكان مقلاًّ، فقال لها: امكثي حتى يرزقنا الله مالاً نحج به. فقالت: منكرة لقوله: أأمكث عاماً وقابله، أي: قابل ذلك العام. والقابل بمعنى المقبل. وهو جارٍ على قبل. يقال: أقبل وقبل، وأدبر ودبر. وهو ظرفٌ ومثله: معاً، وعاملهما محذوف دل عليه المعنى كما قدرنا. والهمزة للإنكار. وهو من أبياتٍ ثلاثة، هي: ماء في ديار كندة. وتعشار، بكسر المثناة الفوقية وبعد المهملة شين معجمة: موضعٌ في بلاد بني تميم، وقيل: جبلٌ في بني ضبة، وقال الخليل: ماءٌ لبني ضبة في نجد. كذا في معجم ما استعجم. وقوله: والقوم غاضرة إلخ، غاضرة بإعجام الأولين: قومٌ من بني أسد أيضا. يقول: لم يتحملوا ليهربوا، إنما أرادوا الإقامة والثبات في منازلهم. وقوله: جمع يظل به إلخ، معضلاً بفتح الضاد المشددة. غاصاً ضيقاً. وقوله: حولي بنو دودان، هم من بني أسد، وبنو بغيض هم رهط النابغة. وترجمة النابغة تقدمت في الشاهد الرابع بعد المائة. وأما البيت الذي أورده سيبويه بعد البيت الشاهد فقد أورده غفلاً غير منسوب، ولم يعزه شراح أبياته، وقال ابن السيد، لا أعرف قائله. وعينه ابن هشام اللخمي، فقال: هو لحميدٍ الأرقط، يقول لزوجه وكانت قد سألته الحج، وكان مقلاًّ، فقال لها: امكثي حتى يرزقنا الله مالاً نحج به. فقالت: منكرة لقوله: أأمكث عاماً وقابله، أي: قابل ذلك العام. والقابل بمعنى المقبل. وهو جارٍ على قبل. يقال: أقبل وقبل، وأدبر ودبر. وهو ظرفٌ ومثله: معاً، وعاملهما محذوف دل عليه المعنى كما قدرنا. والهمزة للإنكار. وهو من أبياتٍ ثلاثة، هي: تحرضني الذلفا على الحج ويحه *** وكيف نحج البيت والحال حائله فقلت امكثي حتى يسار... ***.............. البيت لعل ملمات الزمان ستنجلي *** وعل إله الناس يوليك نائله ويسار: اسم لليسر، معدول عن الميسرة، وهي الغني. وترجمة حميد الأرقط تقدمت في الشاهد الثالث بعد الأربعمائة. وأنشد بعده: الشاهد التاسع والستون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س: جماد لها جماد ولا تقولي *** طوال الدهر ما ذكرت: حماد على أنهم قالوا: معناه قولي لها: جموداً، ولا تقولي: حمداً، بالتنكير والتذكير. وهذا واردٌ على قولهم إن فعال معدولٌ عن معرف مؤنث. وممن قال كذا ابن السراج في الأصول فإنه قال بعد ما أنشد البيت: قال سيبويه: يريد قولي لها: جموداً، ولا تقولي لها: حمداً. ومنهم ابن الشجري، قال في أماليه: جماد: اسمٌ للجمود، وحماد: اسمٌ للحمد في هذا البيت. أراد قولوا لها: جموداً، ولا تقولوا لها: حمداً. وهذا لا يرد عليهم؛ فإنهم قالوا: لا بد من التعريف والتأنيث في فعال بالمعاني الأربعة. وقولهم: معناه جموداً وحمداً وما أشبهه، فإنما هو تساهلٌ في التعبير عنه. وكذلك فعل سيبويه، إلا أنه اعتبر التأنيث في المعدول عنه، إما تحقيق وتقديراً، قال: وأما ما جاء اسماً للمصدر، فنحو فجار معدولة عن الفجرة ويسار معدولة عن الميسرة، وكذلك قوله: والخيل تعدو بالصعيد بداد فهذا بمنزلة قوله: تعدو بدداً، إلا أن هذا المعدول عن حده مؤنثاً. وكذلك لا مساس، والعرب تقول: أنت لا مساس، ومعناه لا تمسني ولا أمسك. ودعني كفاف، فهذا معدولٌ عن مؤنث، وإن كانوا لم يستعملوا في كلامهم ذلك للمؤنث الذي عدل عنه بداد وأخواتها. ونحو ذا في كلامهم. ألا ترى أنهم قالوا: ملامح ومشابه وليالٍ، فجاء جمعه على حد ما لم يستعمل في الكلام، لا يقولون: ملمحة ولا ليلاة. ونحو ذلك كثير، قال الشاعر: جماد لها جماد ولا تقولي ***............... البيت فهذا بمنزلة جموداً. ولا نقول عدل عن قوله جمداً لها، ولكنهما عدلا عن مؤنث كبداد. انتهى نص سيبويه. فعنده يجب فيما لو كان من أسماء الأجناس غير مؤنث، فجعل له اسم فعال أن يقدر له التأنيث. وقد قدر سيبويه في حضار وسفار أنه اسم الكوكبة والماءة، وهما من علم الشخص. وقال السيرافي في بداد: إنه معدول عن البدة والمبادة وغير ذلك، يعني مما يقدر مؤنثاً يعطى معنى ذلك المذكر. والبيت من قصيدة للمتلمس، أورد بعضها الشريف ضياء الدين هبة الله علي بن محمد بن حمزة الحسيني في حماسته، وهي: صبا من بعد سلوته فؤادي *** وسمح للقرينة بانقياد كأني شاربٌ يوم استبدو *** وحث بهم وراء البيد حادي عقاراً عتقت في الدن حتى *** كأن حبابها حدق الجراد جماد لها جماد ولا تقولن *** لها يوماً إذا ذكرت حماد هذا ما أورده الشريف. وقوله: صبا من بعد سلوته إلخ، ماضي يصبو صبوةً، أي: مال إلى الجهل والفتوة. وسمح بمهملتين: بمعنى ذل وفاعله ضمير الفؤاد. ويقال: أسمح بالألف أيضاً. والقرينة: النفس، ومثله القرونة بالواو أيضاً. يقال: أسمحت قرينته وقرونته، وكذلك قرينه وقرونه بدون هاء، أي: ذلت نفسه وتابعته على الأمر. وقوله: كأني شاربٌ يوم استبدوا إلخ أي: مضوا برأيهم، كذا قال الشريف صاحب الحماسة. وهو من استبد فلانٌ بكذا، أي: انفرد به. والواو ضمير تعود على قوم حبيبته. وقوله: وحث بهم إلخ، أي: أسرع بهم. وحادي فاعل حث، وهو سائق الإبل بالحداء، يقال: حدا بالإبل يحدو حدواً، أي: حثها على السير بالحداء كغراب، وهو الغناء لها. وقوله: وراء البيد، قال الشريف: أي: حال دونهم البيد، وهو جمع بيداء، وهي القفر والمفازة. وقوله: عقاراً عتقت إلخ، بضم العين مفعول شارب بمعنى الخمر. وهذا البيت يشهد للأصمعي، فإنه قال: إن الخمر إنما سميت عقاراً لطول مكثها في الدن. واحتج بقولهم: عاقر فلان الشراب، إذا لزمه وأدمنه. والحباب، بالفتح: ما ينتفخ من الماء ونحوه ويعلوه. قال الدينوري في كتاب النبات: يقال لما ينزو من الخمر إذا مزجت: الحباب والفواقع. والجنادع: جنادب تكون في العشر. فشبه ما ينزو منها بالجنادب إذا قمصت. وأنشد هذا البيت مع البيت الأخير. وقد شبه حباب الخمر بعيون الجراد. وقوله: جماد لها جماد إلخ، بالجيم: الجمود، والكلمة الأخيرة حماد بالمهملة: الحمد. قال الأعلم: هما اسمان للجمود والحمد، معدولين عن اسمين مؤنثين سميا بهما، كالمجمدة والمحمدة. وقال صاحب الصحاح: يقال للبخيل جماد له. وإنما بني على الكسر لأنه معدول عن المصدر، أي: الجمود، كقولهم: فجار، أي: الفجرة. وهو نقيض قولهم: حماد بالمهملة في المدح. وأنشد الأبيات الثلاثة الأخرة للمتلمس، ثم قال: أي قولي لها جموداً، ولا تقولي لها حمداً وشكراً. اه. وكونه معدولاً عن المصدر لا يكون سبباً لبنائه. قال الشريف صاحب الحماسة: الضمير في لها يعود على القرينة. قال جامع شعره أبو الحسن الأثرم: أي: أجمد الله خيرها، يقول: قلله. يعني الخمر. اه. ومنه تعلم أن الأعلم لم يصب في قوله: وصف امرأةً بالجمود والبخل، وجعلها مستحقة للذم غير مستوجبة للحمد. هذا كلامه. وسببه لم يطلع على البيت الأول. وكذلك لم يصب ابن السيد في قوله: فيما كتبه على كامل المبرد: دعا على عاذلته بأن يقل خيرها. وهو مأخوذٌ من الأرض الجماد، وهي التي لا تنبت شيئاً. وقيل إنه دعا على بلاد هذه المرأة بالجمود وأن لا تنبت شيئاً. انتهى. وقوله: ولا تقولي بياء المخاطبة. وهذا هو المشهور، وهو محرف من نون التوكيد الخفيفة كما رويناها عن الشريف، وهي الصواب، فإنه خطابٌ لمذكر ولم يتقدم ذكر أنثى. ويؤيده ما رواه ابن الشجري في أماليه: ولا تقولوا بالواو. وقوله: طوال الدهر بفتح الطاء ظرف للقول، يقال: لا أكلمه طوال الدهر، وطول الدهر، بمعنًى. وما: مصدرية ظرفية، ونائب فاعل ذكرت ضمير القرينة، وحماد في موضع نصب لأنه مقول القول. وهذه الأبيات الأربعة أول قصيدةٍ، وما أحسن هذه الأبيات منها: وأعلم علم حقٍّ غير ظنٍّ *** وتقوى الله من خير العتاد لحفظ المال خيرٌ من ضياعٍ *** وضربٍ في البلاد بغير زاد وإصلاح القليل يزيد فيه *** ولا يبقى الكثير مع الفساد وقد ضمن البيت الأخير بعضهم في الهجاء، فقال: يحصن زاده عن كل ضرسٍ *** ويعمل ضرسه في كل زاد ولا يروي من الأشعار شيئ *** سوى بيتٍ لأبرهة الإيادي قليل الماء تصلحه فيبقى *** ولا يبقى الكثير مع الفساد وقد أخطأ هذا القائل في نسبة البيت إلى أبرهة من وجهين. ومثله لابن وكيع التنيسي: مالٌ يخلفه الفتى *** للشامتين من العدا خيرٌ له من قصده *** إخوانه مسترفدا وروي أن حاتماً الطائي لما سمع قول المتلمس، قال: ما له قطع الله لسانه يحمل الناس على البخل!هلا قال: وما الجود يفني المال قبل فنائه *** ولا البخل في مال البخيل يزيد فلا تلتمس فقراً بعيشٍ فإنه *** لكل غدٍ رزقٌ يعود جديد ألم ترى أن المال غادٍ ورائحٌ *** وأن الذي يعطيك ليس يبيد والمتلمس شاعرٌ جاهلي مفلقٌ مقل، ذكره الجمحي في الطبقة السابعة من شعراء الجاهلية. قال أبو عبيدة: اتفقوا على أن أشعر المقلين في الجاهلية ثلاثة: المسيب بن علس، والحصين بن حمام، والمتلمس. واتفقوا على أن المتلمس أشعرهم. والمتلمس اسمه جرير، وكنيته أبو عبد الله بن عبد المسيح بن عبد الله بن زيد بن دوفن بن حرب بن وهب بن جلى بن أحمس بن ضبيعة بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان. وقيل: إنه جرير بن عبد العزى؛ وقيل: غير هذا. ودوفن بفتح الدال وسكون الواو وفتح الفاء بعدها نون. وجلى، بضم الجيم وتشديد اللام بعدها ألف مقصورة. وأحمس: أفعل من الحماسة. وضبيعة بالتصغير. وسيأتي إن شاء الله وجه تسميته بالمتلمس في باب العلم. وكان المتلمس مع ابن أخته طرفة بن العبد ينادم عمرو بن هند ملك الحيرة، ثم إنهما هجواه، فلما أشعر بهجوهما كره قتلهما عنده؛ فكتب لهما كتابين إلى عامل البحرين يأمر بقتلهما، وقال لهما: إني كتبت لكما بصلة، فاذهبا لتقبضاها! فخرجا حتى إذا كانا ببعض الطريق، إذ هما بشيخٍ على يسار الطريق، وهو يحدث، ويأكل، ويقتل القمل، فقال المتلمس: ما رأيت كاليوم شيخاً أحمق! فقال له الشيخ: ما رأيت من حمقي؟ أخرج الداء وآكل الدواء، وأقتل الأعداء! أحمق مني والله من يحمل حتفه بيده! فاستراب الملتمس بقوله، وطلع عليهما غلامٌ من الحيرة، فقال له الملتمس: تقرأ يا غلام؟ قال: نعم. ففك الصحيفة ودفعها إليه، فإذا فيها: أما بعد فإذا أتاك الملتمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حيا! فقال لطرفة: ادفع إليه بصحيفتك، فإن فيها مثل الذي في صحيفتي، فقال طرفة: كلا، لم يكن ليجترئ علي، فإن بني ثعلبة ليسوا كبني ضبيعة. فقذف الملتمس صحيفته في نهر الحيرة وهرب إلى بني جفنة ملوك الشام، وذهب طرفة إلى عامل البحرين، فقتل هناك كما شرحناه مفصلاً في ترجمته في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة. وقال المتلمس في ذلك يخاطب طرفة: من مبلغ الشعراء عن أخويهم *** خبراً فتصدقهم بذاك الأنفس أودى الذي علق الصحيفة منهم *** ونجا حذار حبائه الملتمس ألق الصحيفة لا أبا لك إنه *** يخشى عليك من الحباء النقرس والنقرس: داء في الرجل معروف. وصارت صحيفة الملتمس مثلاً يضرب لمن يحصل له الضرر من جهة النفع. قال الفرزدق: يا مرو إن مطيتي محبوسةٌ *** ترجو الحباء وربها لم ييأس وحبوتني بصحيفةٍ مختومةٍ *** يخشى علي بها حباء النفوس ألق الصحيفة يا فرزدق لا تكن *** نكداء مثل صحيفة الملتمس والبيت الأول من شواهد سيبويه، واستشهد به على ترخيم مروان بحذف الألف والنون، لزيادتهما، وكون الاسم ثلاثياً بعد حذفهما. وأراد مروان بن الحكم. وسبب هذا الشعر أن الفرزدق قدم المدينة مستجيراً بسعيد بن العاصي من زياد ابن سمية، فامتدح سعيداً ومروان عنده قاعد، فقال: ترى الغر الجحاجح من قريشٍ *** إذا ما الأمر بالمكروه عالا قياماً ينظرون إلى سعيدٍ *** كأنهم يرون به هلالا فقال له مروان: قعوداً يا غلام. فقال: لا والله يا أبا عبد الملك، إلا قياماً. فأغضب مروان: وكان معاوية يعادل بين مروان، وبين سعيد؛ فلما ولي مروان كتب للفرزدق كتاباً إلى واليه بضريه؛ أن يعاقبه إذا جاء، وقال للفرزدق: إني قد كتبت لك بمائة دينار! فلما أخذ الكتاب وانصرف على أنه جائزته ندم مروان، فكتب إلى الفرزدق: قل للفرزدق والسفاهة كاسمه *** إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس ودع المدينة إنها مرهوبةٌ *** واعمد لمكة ولبيت المقدس ففطن الفرزدق وأجابه بهذه الأبيات، فكان الفرزدق لا يقرب مروان في خلافته، ولا عبد الملك، ولا الوليد. وروي من طريقٍ أخرى: أن مروان تقدم إلى الفرزدق أن لا يهجو أحداً، وكتب إليه البيتين، فأجابه الفرزدق بالأبيات. وقوله: فاجلس، أي: اذهب إلى الجلس؛ بفتح الجيم وسكون اللام، وهو نجد. يقال: جلس الرجل، إذا أتى نجداً. والحباء: العطاء. وجعل الرجاء للناقة، وهو يريد نفسه. وروى ابن السيد في شرح أبيات الجمل هذا الخبر على غير هذا الوجه، فقال: إن الفرزدق كان مقيماً بالمدينة، وكان أزنى الناس، فقال شعراً، يقول فيه: هما دلتان من ثمانين قامةً *** كما انقض بازٍ أقتم الريش كاسره فلما استوت رجلاي في الأرض قالت *** أحيٌّ يرجى أم قتيلٌ نحاذره فقلت: ارفع الأسباب لا يشعروا بن *** وأقبلت في أعجاز ليلٍ أبادره أحاذر بوابين قد وكلا بن *** وأسمر من ساجٍ تصل مسامره فعيره جرير بذلك في شعر طويل، منه: لقد ولدت أم الفرزدق فاجر *** فجاءت بوزوازٍ قصير القوائم يوصل حبليه إذا جن ليله *** ليرقى إلى جاراته بالسلالم تدليت تزني من ثمانين قامةً *** وقصرت عن باع العلا والمكارم هو الرجس يا أهل المدينة فاحذرو *** مداخل رجسٍ بالخبائث عالم لقد إخراج الفرزدق عنهم *** طهوراً لما بين المصلى وواقم فاجتمع أشراف المدينة إلى مروان بن الحكم وكان والياً بها، فقالوا: ما يصلح أن يقال مثل هذا الشعر بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوجب عليه الحد! فقال مروان: لست أحده، ولكن أكتب إلى من يحده. فأمره مروان بالخروج من المدينة وأجله ثلاثة أيام، ففي ذلك قال: توعدني وأجلني ثلاث *** كما وعدت لمهلكها ثمود ثم كتب له كتاباً إلى عامله يأمره فيه بأن يحده ويسجنه، وأوهمه أن كتب له بجائزة. ثم ندم على ما فعل فوجه عنه رجلاً، وقال له: أنشده هذين البيتين: قل للفرزدق والسفاهة كاسمها ففطن الفرزدق لما أراد، فرمى الصحيفة وقال الأبيات الثلاثة، وخرج هارباً حتى أتي سعيد بن العاصي، وعنده الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم، فأخبرهم الخبر، فأمر له كل واحدٍ منهم بمائة دينار وراحلة، وتوجه إلى البصرة. وقيل لمروان: أخطأت فيما فعلت، كأنك عرضت عرضك لشاعر مضر! فوجه وراءه رسوله، ومعه مائة دينار وراحلةٌ، خوفاً من هجائه. ولما هرب المتلمس إلى ملوك الشام، هجى عمرو بن هند بقصيدةٍ، وحرض قوم طرفة على الطلب بدمه، أولها: إن العراق وأهله كانوا الهوى *** فإذا نأى بي ودهم فليبعد إلى أن قال: إن الخيانة والمغالة والخنى *** والغدر تتركه ببلدة مفسد ملكٌ يلاعب أمه وقطينه *** رخو المفاصل أيره كالمرود بالباب يرصد كل طالب حاجةٍ *** فإذا خلا فالمرء غير مسدد فبلغ هذا الشعر عمراً فحلف إن وجده بالعراق ليقتله، وأن لا يطعمه حب العراق! فقال المتلمس من قصيدة: آليت حب العراق الدهر أطعمه *** والحب يأكله في القرية السوس لم تدر بصرى بما آليت من قسمٍ *** ولا دمشق إذا ديس الكراديس والبيت من شواهد سيبويه على أن نصب حب على نزع الخافض، أي: على حب العراق. وآليت بالخطاب لعمرو بن هند، يقال له: حلفت لا تتركني بالعراق، ولا تطعمني من حبه، والحال أن الحب لا يبقى إن أبقيته، بل يسرع إليه الفساد ويأكله السوس، فالبخل به قبيح. وهذا على طريق الاستهزاء به والسخرية. وبصرى: مدينة بالشام. يقول: لا تدري كثرة الطعام الذي ببصرى وبدمشق. والكراديس: أكداس الطعام. ومن شعر المتلمس، وهو من شواهد البديع: ولا يقيم على ضيمٍ يراد به *** إلا الأذلان: عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوطٌ برمته *** وذا يشج فلا يرثي له أحد وأنشد بعده: الشاهد السبعون بعد الأربعمائة وهو من أبيات المفصل: أطلت فراطهم حتى إذا م *** قتلت سراتهم كانت قطاط على أن قطاط فيه وصف مؤنث بمعنى قاطةٍ أي: كافية. قال الزمخشري في المفصل: أي: كانت تلك الفعلة كافيةً لي وقاطة لثأري، أي: قاطعة له. أشار إلى أن اسم كان ضمير الفعلة المفهومة من قتلت سراتهم. وقطاط مبنية على الكسر في محل نصب خبر كان. قال ابن يعيش في شرحه: وقطاط معدولٌ عن قاطة، أي: كافية؛ يقال: قطاط بمعنى حسبي، من قولهم: قطك درهم، أي: حسبك، مأخوذ من القط وهو القطع، كأن الكفاية قطعت عن الاستمرار. انتهى. وفراطهم، بكسر الفاء، أي: إمهالي إياهم، فهو مصدر مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف. قال صدر الأفاضل: أي: أطلت إمهالهم والتأني بهم. والصواب: فراطكم وسراتكم بالخطاب كما سيأتي. قال ابن السيرافي في شرح أبيات الغريب المصنف: الفراط هو التقدم. يقول: سبقت إليكم بالتهدد والوعيد لتخرجوا من حقي. والسراة، بالفتح، قال أهل اللغة قاطبة: هو جمع سري بمعنى الشريف. ويرد عليهم أن فعيلاً لا يجمع على فعلة بالتحريك، لهذا قال الشارح المحقق في شرح الشافية: الظاهر أنه اسم جمع لا جمع. وذهب السهيلي في الروض الأنف إلى أنه مفرد لا جمع، ولا اسم جمع، قال: لا ينبغي أن يقال في سراة القوم إنه جمع سري، لا على القياس ولا على غير القياس، إنما هو مثل كاهل القوم وسنامهم. والعجب كيف خفي هذا على النحويين حتى قلد الخالف منهم السالف، فقالوا: سراة جمع سري. ويا سبحان الله كيف يكون جمعاً له وهم يقولون: جمع سراة سروات، مثل قطاة وقطوات. يقال: هؤلاء من سروات الناس كما تقول: من رؤوسهم. ولو كان السراة جمعاً ما جمع، لأنه على وزن الفعلة، ومثل هذا البناء في المجموع لا يجمع، وإنما سري فعيل من السرو وهو الشرف، فإن جمع على لفظه قيل: سريٌّ وأسرياء كغني وأغنياء، ولكنه قليلٌ وجوده، وقلة وجوده لا تدفع القياس فيه. وقد حكاه سيبويه. انتهى. والبين من أبياتٍ لعمرو بن معديكرب الصحابي، قالها قبل إسلامه، لبني مازن من الأزد؛ فإنهم كانوا قتلوا أخاه عبد الله فأخذ الدية منهم، فعيرته أخته كبشة بذاك، فغزاهم وأثخن فيهم. وقال هذه الأبيات: تمنت مازنٌ جهلاً خلاطي *** فذاقت مازنٌ طعم الخلاط أطلت فراطكم عاماً فعام *** ودين المذحجي إلى فراط أطلت فراطكم حتى إذا م *** قتلت سراتكم كانت قطاط غدرتم غدرةً وغدرت أخرى *** فما إن بيننا أبداً يعاط بطعنٍ كالحريق إذا التقين *** وضرب المشرفية في الغطاط الخلاط: مصدر خالطه مخالطةً وخلاطاً. ومازن: هو مازن بن زبيد وأراد به القبيلة. ودين بالفتح. ومذحج، بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وكسر الحاء المهملة بعدها جيم: قبيلة كبيرة من قبائل اليمن تفرعت منها قبائل كثيرة. قال ابن الكلبي في جمهرة الأنساب: بنو الحارث بن كعب من مذحج. والنخع من مذحج، وجنبٌ من مذحج، وصداء من مذحج، ورهاء من مذحج، وسعد العشيرة من مذحج، والبطون المذكورة منها إلى زبيد. ومراد من مذحج، وعنس من مذحج؛ وطيئ من مذحج. ومذحج: اسم امرأةٍ، وهي بنت ذي منجشان، كانت أمها ولدتها على أكمةٍ يقال لها: مذحج، فلقبت بها. ويعاط، بفتح المثناة التحتية بعدها عين مهملة: كلمة إغراء على الحرب، أي: احملوا. والغطاط، بضم الغين المعجمة: أول الصبح. كذا روى أبو علي القالي هذه الأبيات الخمسة في نوادره. وقد اختلف في رواية هذا الخبر. قال أبو علي القالي في ذيل الأمالي: قال: أبو محلم: حدثني السكري، قال: حدثنا ابن حبيب قال: قال هشام بن الكلبي: مر عبد الله بن معديكرب براعٍ للمحزم بن سلمة، من بني مالك بن مازن بن زبيد، فاستسقاه لبناً فأبى واعتل عليه، فشتمه فقتله عبد الله، فثارت بنو مازن بعبد الله فقتلوه، فتوانى عمرو في الطلب بدمه، فأنشأت أخته تقول أبياتاً، فاحتمى عمرو عند ذلك فثار في قومه بني عصم، فأباد بني مازن، وقال في ذلك: تمنت مازنٌ جهلاً خلاطي إلى آخر الأبيات الثلاثة الأول. ولم ينشد البيتين الأخيرين. وروى أيضاً في نوادره أن الأصمعي، قال: كان بين عمرو بن معديكرب وبين رجل من مراد - يقال له: أبيٌّ - كلامٌ، فتنازعا في القسم، فعجل عمرو وكانت فيه عجلة، وكان عبد الله أخو عمرو رئيس قومه، فجلس مع بني مازن رهطٍ من سعد العشيرة، وكانوا فيهم، فقعد عبد الله يشرب، ويسقيهم رجلٌ، يقال له: المحزم من بني زبيد، له مال وشرف. وكان عبدٌ من عبيد المحزم قائماً يسقي القوم، فسبه عبد الله فضربه، فقام رجلٌ نشوان من بني مازن فقتل عبد الله. فرأس عمرو بعد أخيه، وكان غزا غزوةً فأصاب فيها ومعه أبيٌّ المرادي، فادعى أنه مساند عمرو، فأبى عمرو أن يعطيه، فلما رجع عمرٌو من غزاته جاءت بنو مازن، فقالوا: قتله رجلٌ منا سيفه، ونحن يدك عليه وعضدك، وإنما قتله وهو سكران، فنسألك بالرحم أن تأخذ الدية بعد ذلك ما أحببت! فأخذ عمرٌو الدية وزاده بعد ذلك أشياء كثيرة، فغضبت أختٌ له تسمى كبشة، وكانت ناكحاً في بني الحارث بن كعب فقالت: أرسل عبد الله إذ حان يومه *** إلى قومه أن لا تخلوا لهم دمي ولا تأخذوا منهم إفالاً وأبكر *** وأترك في بيتٍ بصعدة مظلم ودع عنك عمراً إن عمراً مسالمٌ *** وهل بطن عمرٍو غير شبر لمطعم فإن أنتم لم تقتلوا واتديتمو *** فمشوا بآذان النعام المصلم ولا تشربوا إلا فضول نسائكم *** إذا أنهلت أعقابهن من الدم جدعتم بعبد الله سيد قومه *** بني مازن أن سب ساقي المحزم فلما حضت كبشة أخاها عمراً، أكب بالغارة عليهم وهم غارون، فأوجع فيهم. ثم إن بني مازن احتملوا، فنزلوا في مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، فقال عمرو في ذلك: تمنت مازنٌ جهلاً خلاطي الأبيات الستة. والمحزم، بتشديد الزاء المفتوحة والحاء قبلها مهملة. والمساندة: المعاضدة. وخرج القوم متساندين، أي: على رايات شتى، أي: ولم يكونوا تحت راية أمير واحد. وقولها: أرسل عبد الله، أورد أبو تمام هذه الأبيات إلا البيت الأخير في الحماسة: قال التبريزي: إنما تكلمت به على أنه إخبار عما فعله عبد الله وغرضها تحضيضهم على إدراك الثأر. وقولها: أن لا تخلوا، من التخلية. وهذه رواية القالي. ورواية الحماسة: لا تعقلوا لهم دمي. يقال: علقت فلاناً، إذا أعطيت ديته. والمراد: لا تأخذوا بدل دمي عقلاً. ورواه ابن الأعرابي: أن لا يغلوا لهم دمي، بالمثناة التحتية والغين المعجمة، وقال: الإغلال عند العرب: ترك القصاب بعض اللحم في الإهاب. والغلول: الخيانة في المغنم. والإفال: جمع أفيل، وهو الصغير من الإبل، وكذا الأبكر، وهو جمع بكر. قال التبريزي: فإن قيل: لما ذكر الإفال والأبكر، وما يؤدي إلى الديات لا يكون منهما؟ قلت: أراد تحقير الديات، كما يقال في الرجل إذا أراد تحقير أمر خلعة فاز بها إنسان إنما أعطي فلانٌ خرقاً، وإن كانت فاخرة. وقولها: وأترك في بيت إلخ، صعدة مخلافٌ من مخاليف اليمن، أي: ناحيةٌ منها. وإنما جعلت قبره مظلماً، لأنهم كانوا يزعمون أن المقتول إذا ثأروا به أضاء قبره، فإن أهدر دمه، وقبلت ديته، يبقى قبره مظلماً. وقولها: وهل بطن عمرو إلخ، تزهيد في الدية، كما روي في الخبر: هل بطن ابن آدم إلا شبر في شبر، لما أريد تزهيده في الدنيا. وقولها: أتديتمو، أي: قبلتمو الدية، وهو افتعلتم، يقال: وديته فاتدى. وقولها: فمشوا إلخ، أي: امشوا. وضعف الفعل للتكثير. ومن روى بضم الميم فمعناه امسحوا بالمشوش بفتح الميم، وهو منديل يمسح به الدسم. والمعنى: إن لم تقتلوا قاتلي، وقبلتم ديتي، فامشوا أذلاء بآذان مجعدة كآذان النعام. ووصف النعام بالمصلم تصغيراً لها، وإن كانت خلقة. يقول: كأنكم مما تعيرون ليست لكم آذان تسمعون بها، فامشوا بغير آذان. واختلف في النعام، فقيل: إنها كلها صلم، وقيل غير ذلك. وقولها: ولا تشربوا إلا فضول إلخ، رواه أبو تمام: ولا تردوا، وإذا ارتملت. قال التبريزي: يقال ترمل وارتمل، إذا تلطخ بالدم، فكان من عادتهم إذا وردوا المياه أن يتقدم الرجال ثم العضاريط والرعاة ثم النساء، فكن يغسلن أنفسهن وثيابهن ويتطهرن، آمنات مما يزعجهن، فمن تأخر عن الماء حتى تصدر النساء، فهو الغاية في الذل. وجعلت النساء مرتملات بدم الحيض تفظيعاً للشأن. وقال النمري: قال أبو رياش: تقول: إذا قبلتم الدية فلا تأنفوا بعدها من شيء، كما تأنف العرب، واغشوا نساءكم وهن حيض. والفضول ها هنا: بقايا الحيض، وسمى الغشيان ورداً مجازاً. وقال أبو محمد الأعرابي: معناه لا تردوا المواسم بعد أخذ الدية إلا وأعراضكم دنسة من العار، كأنكم نساءٌ حيض. وهذا كما قال جرير: لا تذكروا حلل الملوك فإنكم *** بعد الزبير كحائضٍ لم تغسل وقال ابن الأعرابي بعد إيراده هذه الأبيات: إن المحزم بن سلمة أحد بني مازن بن زبيد، قتل عبد الله بن معديكرب أخا عمرو، وكان عبد الله لطم عبداً للمحزم على شرابٍ، فجاءت بنو مازن إلى عبد الله، فقتلوه ورأسوا عليهم عمرو بن معديكرب، فلما حضت عمراً، أكب على بني مازن بقتلهم وهم غارون فيقال: إنهم احتملوا فنزلوا في بني مازن بن عمرو، فهم فيهم. وأنفذ عمرٌو ابن أخ له وأعطاه الصمصامة، وقال: اقتل بها المحزم. فمضى فقتل المحزم وابن أخ له، ثم انصرف إلى عمرو، فقال له: ما صنعت؟ قال: قتلت المحزم وابن أخيه! فقال عمرو: كيف أصنع ببني مازن وقد قتلت سيدها؟! فقال الغلام: أعطيتني الصمصامة، وسميتني المقدام ثم أقتل واحداً فما خبري إذن؟ قال: فرحل عمرو في أربعين من بني زبيد فصار في جرمٍ، حتى جاء الإسلام وهاجر. اه. وروى هذا الخبر مفصلاً الأصفهاني في الأغاني: قال: كان عبد الله بن معديكرب أخو عمرو؛ رئيس زبيد، فجلس مع بني مازن فشرب، فتغنى عنده حبشيٌّ وهو عبدٌ للمحزم أحد بني مازن، فشبب بامرأةٍ من بني زبيد، فلطمه عبد الله، وقال له: أما كفاك أن تشرب معنا حتى تشبب بالنساء! فنادى الحبشي: يا لمازن! فقاموا إلى عبد الله فقتلوه وكان الحبشي عبداً للمحزم، فرئس عمرٌو مكان أخيه. وكان عمرٌو غزا هو وأبيٌّ المرادي، فأصابوا غنائم، فادعى أبي أنه كان مسانداً، فأبى عمرٌو أن يعطيه شيئاً، فكره أبيٌّ أن يكون بينهم شرٌّ، لحداثة قتل أخيه، فأمسك عنه. وبلغ عمراً أنه توعده، فقال في ذلك قصيدةٍ منها: تمناني ليقتلني أبيٌّ *** وددت وأينما مني ودادي فلو لاقيتني للقيت قرن *** وصرح شحم قلبك عن سواد إذاً للقيت عمك غير نكسٍ *** ولا متعلم قتل الوحاد أريد حباءه ويريد قتلي *** عذيرك من خليلك من مراد وكان علي بن أبي طالب، إذا نظر إلى ابن ملجم، أنشد: أريد حباءه ويريد قتلي ***.............. البيت وجاءت بنو مازن إلى عمرو فقالوا: إن أخاك قتله رجل منا سيفه وهو سكران، ونحن يدك وعضدك، فنسألك بالرحم إلا أخذت منا الدية ما أحببت! فهم عمرو بذلك، وقال: إحدى يدي أصابتني ولم ترد فبلغ ذلك أختاً لعمرو يقال لها كبشة، وكانت ناكحاً في بني الحارث بن كعب، فغبت، فلما وافى الناس من الموسم قالت شعراً. وأنشد الأبيات الستة. فقال عمرو قصيدةً منها: أرقت وأمسيت لا أرقد *** وساورني الموجع الأسود وبت لذكرى بني مازنٍ *** كأني مرتفقٌ أربد ثم أكب عمرٌو على بني مازن وهم غارون بقتلهم، وقال في ذلك: خذوا حققاً مخطمةً صفاي *** وكيدي يا محزم ما أكيد قتلتم سادتي وتركتموني *** على أكتافكم عبءٌ جديد فأرادت بنو مازن، أن يردوا عليهم الدية لما آذنهم بحرب، فأبى عمرو. وكانت بنو مازن من أعداء مذحج، وكان عبد الله أخا كبشة لأبيها وأمها دون عمرو، وكان عمرٌو قد هم بالكف عنهم حين قتل من قتل منهم، فركبت كبشة في نساءٍ من قومها، وتركت عمراً أخاها، وعيرته فأفحمته، فأكب عليهم أيضاً بالقتل، فلما أكثر فيهم القتل، تفرقوا، فلحقت بنو مازن بصاحبهم مازن بن تميم، ولحقت ناشرة ببني أسد، وهم رهط الصقعب بن الصحصح، ولحقت فالج بسليم ابن منصور. وفالج وناشرة: ابنا أنمار بن مازن بن ربيعة بن منبه بن صعب بن سعد العشيرة. وأمهما هند بنت عدس بن يزيد بن عبد الله بن دارم فقال كابية بن حرقوص بن مازن: يا ليتني يا ليتني بالبلدة *** ردت علي نجومها فارتدت من كان أسرع في تفرق فالجٍ *** فلبونه جربت معاً وأغدت هلا كناشرة الذي ضيعتم *** كالغصن في غلوائه المتنبت وقال عمرو في ذلك: تمنت مازنٌ جهلاً خلاطي الأبيات السابقة إلا البيت الأخير. وتقدمت ترجمة عمرو بن معديكرب في الشاهد الرابع والخمسين بعد المائة. وأنشد بعده: الشاهد الحادي والسبعون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س: والخيل تعدو في الصعيد بداد على أن بداد وصفٌ مؤنث معدول عن متبددة، أي: متفرقة، فهو حال. وهذا مخالفٌ لقول سيبويه، فإنه أنشده على أن بداد فيه معدولٌ عن مصدر مؤنث لا عن وصف. قال: هذا بمنزلة قوله تعدوا بدداً. فيكون المصدر مؤولاً بالحال. قال الأعلم: الشاهد فيه قوله بداد، وهو اسمٌ للتبدد، معدول عن مؤنثٍ، كأنه سمى التبدد بدةً، ثم عدلها إلى بداد، كما سمي البر: برة. انتهى. وصنيع الشارح أحسن، فإن الحال نادرٌ وقوعها معرفة. ويأتي: بداد اسم فعل أمر أيضاً. وأورده الزمخشري في فعال الأمري، قال: وبداد، أي: ليأخذ كلٌّ منكم قرنه. ويقال أيضاً: جاءت الخيل بداد؛ أي: متبددة. فهي مشتركة بين الأمر والمصدر. قال في الصحاح: قولهم في الحرب: يا قوم بداد بداد، أي: ليأخذ كل رجلٍ قرنه. يقال منه تباد القوم يتبادون، إذا أخذوا أقرانهم. وبني لأنه واقعٌ موقع الأمر. ويقال أيضاً: لقوا بدادهم، أي: أعدادهم، لكل رجلٍ رجلٌ. والبداد، بالفتح: البراز. يقال: لو كان البداد ما أطاقونا، أي: لو بارزناهم رجلٌ ورجل. وقولهم: جاءت الخيل بداد، أي: متبددة. وبني أيضاً على الكسر، لأنه معدول عن المصدر، وهو البدد. قال: والخيل تعدو في الصعيد بداد وتفرق القوم بداد، أي: متبددة. قال حسان: كنا ثمانيةً وكانوا جحفل *** لجباً فشلوا بالرماح بداد وإنما بني للعدل والتأنيث والصفة. انتهى. ف بداد على هذا ثلاثة أقسام. وهو تابع في صنيعه. وكذلك تبعه ابن الشجري في أماليه فإنه أورد البيت في قسم المصدر، وقال: أراد بدداً. والبيت من أبياتٍ لعوف بن الخرع التيمي، يرد على لقيط بن زرارة، فإنه كان هجا عدياً وتيماً، وعيره عوفٌ بفراره عن أخيه معبدٍ لما أسر. وقبله: هلا كررت على ابن أمك معبدٍ *** والعامري يقوده بصفاد وذكرت من لبن المحلق شربةً *** والخيل تعدو بالصعيد بداد في الأغاني بسنده أن الحارث بن ظالم المري لما قتل خالد بن جعفر بن كلاب غدراً، عند النعمان بن المنذر بالحيرة، هرب، فأتى زرارة بن عدس، فكان عنده، فلم يزل في بني تميم عند زرارة حتى لحق بقريش. فخرجت بنو عامر إلى الحارث بن ظالم حيث لجأ إلى زرارة، فسارت بنو عامر نحوهم، والتقوا برحرحان، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وأسر يومئذ معبد بن زرارة، أسره عامر بن مالك، واشترك في أسره طفيل بن مالك ورجل من غنيٍّ يقال له: أبو عميلة، وهو عصمة بن وهب، وكان أخا ابن مالك من الرضاع. وكان معبد بن زرارة كثير المال، فوفد لقيط بن زرارة على عامر بن مالك في الشهر الحرام وهو رجب، فسأل عامراً أن يطلق أخاه، فقال عامر: أما حصتي فقد وهبتها لك، ولكن ارض أخي وحليفي الذين اشتركا فيه. فجعل لقيطٌ لكل واحدٍ مائةُ من الإبل، فرضيا وأتيا عامراً فأخبراه، فقال عامرٌ للقيط: دونك أخاك، فأطلق عنه. فلما أطلقه فكر في نفسه لقيط، وقال: أعطيهم مائتين من الإبل وتكون النعمة لهم؟ لا والله لا أفعل ذلك! ورجع إلى عامر، فقال: إن أبي زرارة نهانا أن نزيد على دية مضر، وهي مائة، إن أنتم رضيتم أعطيتكم مائة من الإبل. فقالوا: لا حاجة لنا في ذلك. فانصرف لقيط، فقال له معبد: مالي يخرجني من أيديهم، فأبى ذلك عليه لقيط، وقال معبد لعامر: يا عامر أنشدك الله لما خليت سبيلي، فإنما يريد ابن الحمراء أن يأكل مالي! ولم تكن أمه أم لقيط. فقال عامر: أبعدك الله، إن لم يشفق عليك أخوك فأنا أحق أن لا أشفق عليك. فعمدوا إلى معبد، فذبحوا شاة فألبسوه جلدها حاراً، وشدوا عليه القد، وبعثوا به إلى الطائف، فلم يزل بها حتى مات. فقال في ذلك عوف بن عطية بن الخرع: هلا كررت على ابن أمك *** البيتين والكر هنا: الرجوع في حومة الحرب لاستخلاص أخيه من الحرب. واتفقت جميع الروايات على قوله ابن أمك مع أنهما من أمين. قال ابن حبيب في شرح النقائض: ليست أمهما واحدةً، ولكن أمهما أمهات فجمعهما. ورواه ابن السيد فيما كتبه على كامل المبرد: على أخيك معبدٍ. وقال أبو محمد الأعرابي الأسود في ضالة الأديب: قد غلط ابن الأعرابي من وجهين: أحدهما: أن الشعر لعوف بن الخرع، وهو قد نسبه إلى ابن كراع. والثاني: أنه قال: على ابن أمك وإنما الرواية على أخيك بالتصغير، لأن معبداً لم يكن لأم لقيط. وقوله: والعامري يقوده إلخ، جملةٌ حال من التاء في كررت. والصفاد، بالكسر: جمع صفد بفتحتين، وهو القيد. وقوله: وذكرت من لبن إلخ، الجملة معطوفة على هلا كررت. والمحلق بتشديد اللام المفتوحة، قال صاحب النقائض: المحلق سمة ابل بني زرارة. وقالابن السيد فيما كتبه على الكامل: المحلق: إبلٌ موسومة بالحلق على وجهها. وقال ابن الشجري في أماليه: أي: من لبن النعم الذي عليه وسومٌ كأمثال الحلق. وقوله: والخيل تعدوا الجملة حال من تاء المخاطب في ذكرت. والصعيد: وجه الأرض. وروى بدله: بالصفاح، بالكسر. قال ابن السيد: وهو موضع. قال الأعلم: يقول هذا للقيط بن زرارة التميمي، وكان قد انهزم في حربٍ أسر فيها أخوه معبد بن زرارة، فعيره ونسب إليه الحرص على الطعام والشراب، وأن ذلك حمله على الانهزام، وأراد بالمحلق قطيع إبلٍ وسم بمثل الحلق من وسم النار. انتهى. قال ابن قتيبة في أبيات المعاني: قال مقاس العائذي: تذكرت الخيل الشعير عشية *** وكنا أناساً يعلفون الأياصرا أي: ذكرتم الحب والقرى فانهزمتم ورجعتم إليها، ونحن نعلف الحشيش، فنحن نسير لا ننهزم، ولا نبالي أين كنا. ونحوٌ منه قول عوف بن عطية بن الخرع للقيط بن زرارة: هلا كررت على ابن أمك ***.................البيتين والمحلق: إبلٌ سماتها الحلق. وبداد: متفرقة. انتهى. والأياصر: جمع أيصر، وهو الحشيش. وهذه الوقعة يقال لها: يوم رحرحان، براءين وحاءين مهملات، وهو جبل قرب عكاظ. وقد شرح خبر هذا اليوم شارح المناقضات شرحاً مفصلاً، قال: قال أبو عبيدة: حدثني أبو الوثيق، أحد بني سلمى بن مالك بن جعفر بن كلاب، قال: لما التحف بنو دارم على الحارث بن ظالم، لما قتل خالد بن جعفر بن كلاب، وأبى بنو دارم أن يسلموه، ويخرجوه من عندهم، غزاهم ربيعة بن الأحوص بن جعفر بن كلاب، بأفناء عامر، طالباً بدم أخيه خالد بن جعفر عند الحارث بن ظالم، فقاتل في القوم، فهزمت بنو دارم، وهرب معبد بن زرارة. فقال رجلٌ من غني لعامر والطفيل ابني مالك بن جعفر بن كلاب: هذا رجل معلم بعمامة حمراء، في رأسه جرح، رأيته يسند في الهضبة - أي: يصعد - وكان معبد قد طعن فصرع، فلما أجلت عنه الخيل سند في هضبةٍ من رحرحار، وهو جبل، فقال عامر وأخوه الطفيل للغنوي: اسند واحدره. فسند الغنوي فحدره عليهما، فإذا هو معبد بن زرارة. فأعطيا الغنوي عشرين بكرة، وصار أسيرهما. وأما درواس بن هنيٍّ، أحد بني زرارة، فزعم أن معبداً كان برحرحان متنحياً عن قومه في عشراوات له، فأخبر الأحوص بمكانه فاغتره، فوفد لقيط بن زرارة عليهم في فداء أخيه، فقال: لكم عندي مائتا بعير. فقالوا: إنك يا أبا نهشل سيد الناس، وأخوك معبد سيد مضر، فلا نقبل فداءه منك إلا دية مالك. فأبى أن يزيدهم، وقال: إن أبانا أوصانا أن لا نزيد بأسيرٍ منا على مائتي بعير فيحب الناس أخذنا. فقال معبد: والله لقد كنت أبغض إخوتي إلي وفادةً علي، لا تدعني ويلك يا لقيط، فوالله إن عدة نعمي لأكثر من ألف بعير، فافدني بألف بعير من مالي! فأبى لقيط، وقال: تصير سنةً علينا. فقال معبد: ويلك يا لقيط، لا تدعني فلا تراني بعد اليوم أبداً! فأبى لقيط ومناه أن يغزوهم ويستنقذه، ورحل عن القوم، فما سقوا معبداً الماء، حتى هلك هزلاً. وقال أبو الوثيق: لما أبى لقيط أن يتفادى معبداً بألف بعير، ظنوا أنه سيغزوهم، فقالوا: ضعوا معبداً في حصن هوازن. فحملوه، حتى وضعوه بالطائف، فجعلوا إذا سقوه قراه لم يشرب وضم بين فقميه، وقال: لا أقبل قراكم وأنا في القد أسيركم! فلما رأوا ذلك، عمدوا إلى عودٍ فأولجوه في فيه، وفتحوا فاه، ثم أوجروه اللبن رغبةً في فدائه؛ وكراهية أن يهلك. فلم يزل كذلك حتى هلك في القد. فلما هجا لقيطٌ عدياً وتيماً، قال عطية بن عوف التيمي، يعيره أسر بني عامر معبداً، وفراره عنه: هلا كررت على ابن أمك معبد ***.....................البيتين فلما انقضت وقعة يوم رحرحان جمع لقيط بن زرارة لبني عامر، وألب عليهم. وبين يوم رحرحان، ويوم جبلة سنة، وكان يوم جبلة قبل الإسلام بخمس وأربعين سنة في قول المكثر، وذلك عام ولد النبي صلى الله عليه وسلم. وفي قول المقلل: أربعين سنة. انتهى باختصار. وعوف بن خرع التيمي شاعر جاهلي، وهو عوف بن عطية بن الخرع، واسم الخرع عمرو، بن عيش بن وريقة بن عبد الله بن لؤي بن عمرو بن الحارث ابن تيم بن عبد مناة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. كذا في جمهرة الأنساب. فالخرع لقب جده، وهو بفتح الخاء المعجمة وكسر الراء، بعدها عين. وله ديوان صغير، وهو عندي. وأنشد بعده: الشاهد الثاني والسبعون بعد الأربعمائة قد كنت أحسبكم أسود خفيةٍ *** فإذا لصاف تبيض فيه الحمر على أن فعال في الأعلام الشخصية جميع ألفاظها مؤنثة. وأما لصاف هنا فإنما ذكره بإرجاع الضمير عليه من فيه، لتأويله بالموضع، وهو منزلٌ من منازل بني تميم. وروي أيضاً فيها بتأنيث الضمير، فلا إشكال حينئذ. أقول: الذي رواه: فيه بضمير المذكر هو صاحب الصحاح والعباب. والذي رواه: فيها بضمير المؤنث جماعة كثيرة، منهم ابن السكيت في إصلاح المنطق، والقالي في أماليه، وأبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب، وأبو العلاء المعري في شرح ديوان البحتري، وأبو عبيدٍ البكري في معجم ما استعجم. قال ابن دريد في الجمهرة بعد إنشاده البيت: يخرج لصاف مخرج المؤنث، فتقول: هذه لصاف، ورأيت لصاف، ومررت بلصاف، فهو لا ينصرف. وكان أبو عبيدة يقول: هذا لصاف، مبنيٌّ على الكسر، أخرجه مخرج حذام وقطام. وإن رفعت فجيد، وإن نصبت فجائز. انتهى. قال الصاغاني في كتاب فعال: وبعضهم يجريه مجرى ما ينصرف. وقد صرفه الشاعر في قوله: إن لصافاً لا لصاف فاصبري *** البيت ولصاف باللام والصاد المهملة: اسم ماءٍ في موضعٍ بين مكة والبصرى لبني يربوع، من قبيلة تميم. قال أبو عبيدٍ في المعجم: قال الأثرم: لصاف: ماء لبني يربوع؛ وكانت لصاف هي وما يليها من المياه والمواضع أولاً لإياد، وفيها يقول عبد ناجر الإيادي: إن لصافاً لا لصاف فاصبري *** إذ حقق الركبان موت المنذر ثم نزلتها بنو تميم، فصارت لهم. ولصاف موضع رفعٍ على الابتداء، وجملة تبيض إلخ، خبره. والحمر بضم الحاء المهملة وتشديد الميم المفتوحة: ضربٌ من الطير كالعصفور، الواحدة حمرة، وقد تخفف الميم، فيقال: حمر وحمرة. أنشد ابن السكيت لابن أحمر: إن لا تداركهم تصبح منازلهم *** قفراً تبيض على أرجائها الحمر كذا في الصحاح، وأنشد البيت. وقال أبو حاتم في كتاب الطير: الحمر بعظم العصفور، وتكون كدراء ورقشاء. قال أبو العلاء المعري في شرح ديوان البحتري: يجوز أن يكون كلٌ من المشدد والمخفف لغة، ويجوز أن يكون المخفف ضرورة، لأن إحدى الميمين زائدة. وقد ذكر ابن السكيت المخفف في باب فعلة، فأوجب عليه ذلك أن يكون يرى التخفيف أفصح. ومذهب سيبويه والخليل أن الميم الأولى هي الزائدة، ومذهب غيرهما أن الثانية هي المزيدة. وكلا القولين له مساغ. قال صاحب العباب: وابن لسان الحمرة كوفيُّ نسابة، واسمه عبد الله بن حصين ابن ربيعة بن صعير بن كلاب. وحصين هو لسان الحمرة. وقرأت في كتاب الفهرست لمحمد بن إسحاق بن النديم بخطه: أن اسم ابن لسان الحمرة ورقاء بن الأسعر. انتهى. وخفية بفتح الخاء المعجمة وكسر الفاء بعدها مثناة تحتية مشددة، قال الخليل: هي اسم غيضة ملتفة تتخذها الأسد عريناً. كذا في المعجم لأبي عبيد. يقول: كنت أحسبكم شجعاناً كأسود خفية، فإذا أنتم جبناء ضعفاء، فكأن أرضكم لصاف، يتولد فيها هذا الطير لا الرجال. والبيت أول أبياتٍ لأبي المهوش الأسدي، هجا بها نهشل بن حري، أوردها أبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب، وهي: قد كنت أحسبكم أسود خفيةٍ *** فإذا لصاف تبيض فيها الحمر فترفعوا هدج الرئال فإنم *** تجني الهجيم عليكم والعنبر عضت تميمٌ جلد أير أبيهم *** يوم الوقيط وعاونتها حضجر وكفاهم من أمهم ذو بنةٍ *** عبل المشافر ذو قليلٍ أسعر ذهبت فشيشة بالأباعر حولن *** سرقاً فصب على فشيشة أفجر منعت حنيفة واللهازم منكم *** قشر العراق وما يلذ الحنجر وإذا تسرك من تميمٍ خلةٌ *** فلما يسوؤك من تميمٍ أكثر يا نهشل بن أبي ضميرٍ إنم *** من مثل سلح أبيك ما تستقطر إذ كان حريٌّ سقيط وليدةٍ *** بظراء يركض كاذتيها العهر قوله: فترفعوا هدج إلخ، استهزاءٌ بهم. وهدج الرئال منصوب بنزع الخافض، أي: عن هدجه، وهو مصدر وفعله من باب فرح، يقال: هدج الظليم، إذا مشى في ارتعاش. والرئال: جمع رأل، بفتح الراء وسكون الهمزة، وهو فرخ النعام. والهجيم بالتصغير والعنبر أخوان، وهما ابنا عمرو بن تميم. وأراد أولادهما، فإن كلاً منهما أبو قبيلة. وقوله: عضت تميم إلخ، روى بدل تميم أسيد مصغر أسود لا ينصرف، وهو أخو الهجيم والعنبر. وروى أيضاً بدل جلد جذل بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة، وهو أصل الحطب العظيم. شبه أير أبيهم به. وهذا الكلام سبٌّ وتذليل عند العرب. وأراد بتميم ما تفرع منه من القبائل والبطون. ويوم القيظ كان في فتنة عثمان بن عفان، وهو للهازم، رئيسهم أبجر بن بجير، على بني مالك بن حنظلة. فأما بنو عمرو بن تميم فأنذرهم ناشب بن بشامة العنبري فدخلوا الدهناء فنجوا. وفي هذا اليوم أسر ضرار بن معبد بن زرارة. وحضجر، بفتح المهملة وسكون المعجمة بعدها جيم، وهو لقب العنبر. قاله أبو محمد الأعرابي. والمعاونة كانت بالإنذار كما ذكرنا. وقوله: وكفاهم من أمهم ضمير هم راجعٌ لأسيد والهجيم والعنبر، وأمهم هي أم خارجة المشهورة بالنكاح؛ يقال فيها: أسرع من نكاح أم خارجة. كانت ذواقة، إذا ذاقت الرجل طلقته وتزوجت غيره. فتزوجت نيفاً وأربعين زوجاً، ولدت في عامة قبائل العرب. وكان الخاطب يأتيها، فيقول: خطب! فتقول: نكح! وكان أمرها إليها إذا تزوجت؛ إن شاءت أقامت وإن شاءت ذهبت، فيكون علامة ارتضائها للزوج أن تصنع له طعاماً كلما تصبح. وكان آخر أزواجها عمرو بن تميم، وهو المراد بقوله ذو بنة، بفتح الموحدة وتشديد النون، وهي رائحة بعر الظباء، والرائحة أيضاً. والعبل: الضخم. والمشفر بالكسر، في الأصل: شفة البعير. والقليل، بالقاف: دقة الجثة. والأسعر، بالسين والعين المهملتين: القليل اللحم الظاهر العصب. وصفه بحقارة الجثة. وقوله: ذهبت فشيشة بالفاء والشين المعجم: لقبٌ لبعض بني تميم. وأبجر: رئيس اللهازم. وقوله: منعت حنيفة واللهازم، حنيفة: أبو قبيلة، وهو حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. واللهازم: هي تيم الله بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي المذكور. واللهازم حلفاء بني عجل، وعجل أخو حنيفة المذكور. والقشر، بفتح القاف وكسر الشين، وهو التمر الكثير القشور. والحنجر: الحلقوم. وقوله: وإذا تسرك إلخ، الخلة، بفتح الخاء المعجمة، هي الخصلة. وقوله: يا نهشل إلخ، هو نهشل بن حري بن ضمرة، وهو شقة، ابن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة ابن تميم. وضمير هو مصغر ضمرة. والسلح: التغوط، وهو مصدر سلح. والسلاح، بالضم: اسم النجو والعذرة. وتستقطر: تتبخر بالقطر بالضم، وهو العود الذي يبخر به. وقوله: إذ كان حري، بفتح المهملة وتشديد الراء والياء، وهو أبو نهشل المهجو. وسقيط بمعنى السقط. والوليدة: الخادمة. والبظراء: التي لم تختن. ويركض: يحرك. والكاذتان: ما نتأ من اللحم في أعالي الفخذ. والعهر: جمع عاهر، وهو الزاني. رمى أمه بالفجور. ذكر المدائني وغيره، قال: مر الفرزدق بمضرس بن ربعي الأسدي، وهو ينشد بالمربد وقد اجتمع الناس حوله، فقال: يا أخا بني فقعس؛ كيف تركت القنان؟ قال: تبيض فيه الحمر. قال: أراد الفرزدق قول نهشل بن حري: ضمن القنان لفقعسٍ سوءاته *** إن القنان بفقعسٍ لمعمر وأراد مضرس قول أبي المهوش الأسدي: وإذا تسرك من تميمٍ خصلةٌ *** فلما يسوؤك من تميمٍ أكثر قد كنت أحسبكم أسود خفيةٍ *** فإذا لصاف تبيض فيها الحمر عضت أسيد جذل أير أبيهم *** يوم النسار وخصيتيه العنبر نسبهم إلى الجبن، بقوله: فإذا لصاف تبيض إلخ، ثم أعضهم أير أبيهم، لفرارهم يوم النسار. وقال القالي في أماليه: حدثنا أبو بكر، قال: قيل للفرزدق: إن ها هنا أعرابياً قريباً منك ينشد شعراً رقيقاً. فقال: إن هذا لقائف ولحائن! فأتاه، فقال: ممن الرجل؟ قال: من بني فقعس. قال: كيف تركت القنان؟ قال: تركته يساير لصاف. فقلت: ما أراد؟ قال: أراد الفرزدق قول الشاعر: ضمن القنان لفقعسٍ سوءاته ***.............. البيت وأراد الفقعسي قول الآخر: وإذا تسرك من تميمٍ خصلةٌ ***.............. البيت قد كنت أحسبهم أسود خفيةٍ ***.............. البيت أكلت أسيد والهجيم ودارم *** أير الحمار وخصيتيه العنبر انتهى. قال أبو عبيد البكري فيما كتبه على أمالي القالي: البيت الأخير محول عن وجهه، والمحفوظ فيه: عضت أسيد جذل أير أبيهم *** يوم النسار وخصيتيه العنبر انتهى. وبنو تميم لا تعير بأكل أير الحمار، وإنما تعير به بنو فزارة. وقوله: يساير لصاف، من المحال الذي لا يجوز إلا إذا سيرت الجبال فكانت سراباً، والتعريض الحسن هو ما نقلنا. انتهى. قلت: وقد روى البيت المذكور أبو محمد الأعرابي كما رواه القالي، وهو خطأ كما بينا. وقنان بفتح القاف ونونين: جبل في ديار بني فقعس. وأبو مهوش الأسدي، قال ابن الكلبي في جمهرة الأنساب: هو ربيعة ابن رئاب بن الأشتر بن حجوان بن فقعس بن طريف بن عمرو بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. ومهوش، بكسر الواو المشددة، بعدها شين معجمة. وحوط بواو ساكنة بين مهملتين. ورئاب، براء مهملة مكسورة بعدها همزة ممدودة. وحجوان، بفتح المهملة وسكون الجيم. وقعين، بضم القاف وفتح العين. ودودان، بضم الدال المهملة الأولى. وقال أبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب: اسمه حوط بن رئاب. وبه ترجمة ابن حجر في الإصابة في قسم المخضرمين الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يروه. قال: حوط بن رئاب الأسدي الشاعر، ذكر أبو عبيد البكري في شرح الأمالي أنه مخضرم. وهو القائل: دنوت للمجد والساعون قد بلغو *** جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا فظهر من هذا أنه إسلامي. ولم أر له في كتب تراجم الشعراء ذكراً. والله أعلم.
|